شرح الموافقات
مجموعة شرح الموافقات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد فإن علم أصول الفقه، هو من العلوم الجليلة التي تصيغ العقل المسلم، وتربيه على النظر والإستدلال الشرعيّ، المرتبط بالأدلة الكلية والقواعد العامة، التي ما هي إلا التوجهات العامة لمجموع النصوص الجزئية التفصيلية، التي هي آيات القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا العلم درةٌ في جبين منهج النظر والإستدلال، الذي يحكم المذهب السنيّ، لا من جزئياته، بل ومن كلياته على حدٍ سواء. وهذا الذي قررنا هو ما أشار اليه العَلامة الأصولي اللغوى، أبي إسحاق الشاطبي، في كتابه العظيم الإعتصام، حيث بيّن أن من طرق أهل البدع والأهواء أنهم يأخذون بالأدلة الجزئية يضربون بها الكلية، أو العكس. والصحيح، هو أنه "لا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الصول الكلية" الإعتصام1/-239. ولن نتعرض في موجَزنا هذا لسيرة الشاطبيّ، فهي محرّرة في مواضع كثيرة، يمكن للقارئ أن يجدها إن أراد. ولكن سنتناول ببعض التفصيل كتابه الذي نحن بصدد شرحه، كتاب "الموافقات في أصول الشريعة"، وهو الأعظم والأجل في بابه، بل قد صرح بعض العلماء، كمحمد أبي زهرة، بأنه قد أوفي فيه على الغاية وبلغ الكمال. ولا نحسبه قد بالغ في هذا الوصف، فإن الكتاب طفرة في علم الأصول، كما كانت مقدمة بن خلدون طفرة في علم الإجتماع. وهي طفرات لم يُكتب أن يتبعها اللاحقون بما يُبنَى عليها، أو من يتوسع في تطبيقاتها، فيصل بالمجتمع، من خلالها، إلى النظر الأوفى والإستدلال الأكمل، في استيفاء جوانب الإجتهاد الشرعيّ في حوائج الأمة ونوازلها. ولا بأس أن ننقل هنا جزء مما قال الإمام الشاطبيّ في طور تكوين هذا العمل الجبار، وفي شرح منهجه فيه، بأسلوبه، قال "ولما بدأ من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم ازل اقيد من اوابده، واضم من شوارده تفاصيل وجملاً، واسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبيِّنا لا مجملاً، معتمدا على الاستقراآت الكلية، غير مقتصر على الافراد الجزئية، ومبينا اصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما اعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة. ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد، الى تراجم تردّها الى أصوالها وتكون عونا على تعقّلها وتحصيلها، فانضمت الى تراجم الاصول الفقهية، وانتظمت في اسلاكها السنية البهية، فصار كتابا منحصرا في خمسة اقسام، الاول في المقدمات العلمية المحتاج اليها في تمهيد المقصود والثاني في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف والثالث في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام والرابع في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل وذكر مآخذها وعلى أي وجه يحكم بها على أفعال المكلفين والخامس في أحكام الإجتهاد والتقليد والمتصفين بكل واحد منهما، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب، وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات وأطراف وتفصيلات يتقرر بها الغرض المطلوب ويقرب بسببها تحصيله للقلوب، ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية"مقدمة الشارح. نحن لم نعرف شارحاً على الموافقات أجلّ من الشيخ العلامة عبد الله دراز، وإن كان من اللاحين على الشاطبيّ في كثير من مقالاته، كما لم نعرف في اللاحقين من بذل الجهد في هذا الإتجاه أكثر من العلامة الإمام محمد الطاهر عاشور، في كتابه "مقاصد الشريعة"، الذي اتبعه عدد من التلامذة في شروح ودراسات تعدّدت و وانفرد كلّ منها بجانب من جوانب هذا العمل العلميّ الشامخ. كما أن عدد من العلماء قد قام بعقد دروس سمعية، بغرض شرح هذا الكتاب الجليل، على رأسهم العلامة الإمام الأصولي المحقق عبد الله الغديان، رحمة الله عليه، وهو، فيما أحسب، أجل من تحدث في هذا الأمر سمعاً، إذ إنّ حديثه كان من السهل الممتنع بلا ريب، فكان قريباً من طلاب العلم الساعين إلى التعرف على هذا الكتاب، ثم التوغل فيه بعد ذلك برفق. وقد خلط الشيخ العلامة رحمه الله شرحه على الموافقات بشرح بعض الكتب الأخرى ككتاب الفروق، فكانت له حوالي اثنتا وعشرون محاضرة في هذا الصّدد. كذلك قدم الشيخ العلامة الفاضل يوسف الغفيص حفظه الله تعالى، عدداً من المحاضرات وإن قلّ، فأحسن وأجاد، وجاء شرحه أقرب من ذوى الهمم الأعلى والتحصيل الأوفى، منه إلى طالب الأصول العاديّ. أما عملي الذي يسر الله سبحانه لي فيه هنا في هذه المجموعة، هو وسط بين طرفين، لا إلى الإغراق في التعقيد الممل، بالدور حول المسائل الأصولية المركبة التي يمكن أن تتصل بالمسائل المذكورة بنسبٍ بعيد، ولا بالتبسيط المخلّ، الذي يفوت على السامع الدارس فائدة الكتاب، أو ما يتصل به من نسبٍ قريب. وقد وصلت فيه، وقت تدوين هذه المقدمة، إلى منتصف الجزء الثاني من الكتاب المطبوع، وهو منتصف القسم الثالث منه "مقاصد الشريعة"، فكان بذلك هذا الشرح، ابعد مما ذهب اليه الذين سبقوا من هؤلاء العظام الأجلاء. وما زال العمل على إنهاء هذه المجموعة مستمراً، إن أفسح الله ليّ في العمر لإتمام الكتاب كله، حيث لا يوجد حالياً في المكتبة الإسلامية شرح سمعي كامل له. ثم إن مما يجدر الإشارة اليه هو أنّ كتاب الموافقات ليس كتاباً في أصول الفقه، كما يظن البعض، يمكن مقارنته بكتب الأصول المعروفة كالبرهان للجويني أوالمستصفى للغزالي أو المعتمد للبصريّ، وغيرهم من الكتب والشروح، لكن يمكن يوصف أنه كتابٌ في "أصول الشريعة" أو في أصول "أصول الفقه". إذ ينبنى موضوعه على تلك القواعد المستقرأة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي لا تختص بالنظر في مسائل الفقه، بل هي إستقراءٌ لمسائل الأصول، واستنباط من كلياتها، يسمح للناظر أن يتلمس تلك الأسس العقلية-الشرعية الأولية التي بنيت عليها الشريعة، قبل أن تستخرج منه قواعد أصول الفقه. فهو علم أسبق من أصول الفقه في العقل والنظر، وإن كان لاحقا به في الدرس والبحث. وعلى هذا نبنى نصحتنا لمن يريد أن يستمع إلى هذه المحاضرات، أن يكون على علم بعلم أصول الفقه ومصطلحاته، وأبوابه وأقسامه، قبل أن يشاركنا هذا الشرح، إذ سيجد أننا في كثير من الأحيان نتحدث بهذه المصطلحات ونرجع اليها دون أن نشرحها أو نعلق عليها. ولعل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، فوالله لا سعادة ولا نجاح إلا بتقبله للعمل. تورونتو 20 ربيع الأول 1433 الموافق 13 فبراير 2012
مرفق موافقات 1 - تحميل |