(1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
حين يتحدث "الإسلاميون" اليوم عن دولة "الإسلام"، فغالباً ما يرِد على خاطرهم خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأكثرهم واقعية، يرد على باله الخلافة الأموية أو العباسية. وأعني بالإسلاميين صنفين من المسلمين، أحدهما عامتهم، والآخر خاصتهم من الشرعيين أو الباحثين، حسب انتماءاتهم العقدية والحركية. فالشرعيون، في الحركات الجهادية مثلا، لا يختلفون كثيرا في تصورهم عن عامتهم في هذا الصدد، وهو التصور الذي ذكرنا، تصور بسيط مباشر "لدولة" أو "خلافة" تقوم فجأة لا يحول بيننا بينها في عالم الناس إلا أن نجد "خليفة" نجتمِع عليه، أو يجتمع عليه من يؤصل هذا النظر منهم، ويلتزم به المسلمون، عامة وعلماء في نواحي الأرض كلها!.
والباحثون، سواء المُنتمون منهم إلى حركات إسلامية كالإخوان، أو المستقلون العلمانيون، ينظرون إلي الدولة بمنظار جدّ مختلف عن أولئك الآخرين. فهؤلاء الذين ينتمون إلى حركات إسلامية يرونها دولة ديموقراطية وطنية، يحكمها شرع الله بحكم الأغلبية التي تعيش على أرضها، لا أكثر. أما العلمانيون اللادينيون، فأنهم يرون الدولة بأي شكل إلا أن يكون للإسلام فيها موضع قدم، فقد تكون ديموقراطية أو دكتاتورية أو عسكرية، لابأس بأيها، طالما ليس فيها أي صبغة إسلامي. وهؤلاء هم من نعتبرهم، بالتعبير الشرعيّ، مرتدون. ومن ثم، فإن بحثنا هنا لن يمس تصوراتهم إلا من حيث نقاط تلاقيها مع التصورات "الإسلامية".
والحقّ، أن دولة الإسلام، تقع وسطا بين هذين الطرفين "الإسلاميّين"، كما سنبين في هذا المبحث.
وقد أدى تصور "الإسلاميين" للدولة الإسلامية، إلى ما نراه منعكساً على الساحة اليوم، في مصر والشام والعراق على الأخص، ثم اليمن وليبيا وتونس، بشكلٍ أو بآخر.
ففي مصر، أدي تصور الدولة الإسلامية في ذهن الإخوان إلى تضارب في المصالح، بين منهجين عقديين لا يمتان لبعضهما بصلة، منهج العلمانية اللادينية، ومنهج الإسلام. ولم يدرك هؤلاء أن اللقاء بينهما مستحيلاً، وأن إمساك العصا من النصف، لا يقبله العلمانيون اللادينيون من ناحية، ولا يقبله الغرب الصهيو-صليبي من جهة أخرى، فسقطوا، وسقطت معهم فكرة الدولة الإسلامية المبنية على هذا التصور.
أما في العراق والشام، فإن الأمر اختلف عنه في مصر اختلافاً بيّنا. ذلك أن "التيار السلفي الجهاديّ" قد انقسم على نفسه إلى تيارين، التيار السلفي الجهاديّ الأصلي الأصيل، المتمثل في مواقف الكثير من علماء أهل السنة، عقديا، وفي قاعدة خراسان عقدياً وعملياً، وما آثرنا أن نطلق عليه هنا "التيار السلفي الجهاديّ الجديد-أحاديّ النظرة" للأسباب التي سنقدمها بعد.
فالتصور السوسيو-ديني، عند هؤلاء المنتمين "للتيار السلفي الجهاديّ الجديد-أحاديّ النظرة"[1]، بشأن فكرة الدولة الإسلامية، بكافة طوائفهم المتصارعة، يرون الدولة بالمفهوم الذي قدمنا أولاً، دولة أبي بكر وعمر، أو خلافة الأمويين أو العباسيين. وهذا التصور إنما نشأ لعدة عوامل، نذطرها بعد.
كلّ تلك العوامل، قد أنشأت جيلاً "إسلاميا"، صالحاً تقياً، لكنه أقرب إلى السذاجة في النواحي السياسية والإجتماعية، والتي نسميها في التعبير الشرعي، بالسنن الكونية في مسائل العمران، وبالسياسة الشرعية.
والأمر هنا أن كلا التصورين، الإخواني، أو السلفي الجهاديَ، بشكله الحاليّ، على خطإ في تصور "الدولة الإسلامية". ولا بأس هنا أنْ نعيد رسم مسار الخطأ في الطريقين، لنبني عليهما ما نراه في هذا الصدد.
وسنقوم ببناء هذا البحث على ثلاثية جدلية، ننظر فيها إلى التصورين اللذين ذكرنا، وينبثق عن كل منها ثلاثة محاور، فتتكون بهذا تسعة نقاط. هذه الثلاثية هي:
- المعطيات: وفيها نضع تصورات التيار المقصود بلا نقد، سلباً أو إيجابا، بل نكتفي بسردها، إثباتا وبيانا.
- الإشكاليات: وفيها نطرح المشكلات العقدية والعملية في تلك التصورات، كما نراها، فننقد سلباً وإيجابا.
- الأطروحات: وفيه نبيّن الموقف السنيّ القويم في تلك المسائل، ثم نطرح لبنة بناءٍ في موضوع تصور "الدولة الإسلامية" على هذا الأساس.
وسنعتمد في هذه الدراسة على ما تراكم لدينا من معلومات تحليلية للواقع في الساحة الإسلامية، خلال العقود الأربعة الأخيرة، دون أن نشغل الصفحات بتأييد رأي أو قول من نقولات العلماء، بل نحيل إلى ما دوّن علماء السنة في موضوع السياسة الشرعية خاصة، وفي تاريخ الفرق، وما دوّن المحدثون من علماء أفاضل فيها، سواء الناحية العقدية، وما أكثرهم، وفي الناحية السياسية-الاجتماعية، ككتابات المعلم التربويّ محمد قطب رحمه الله، والشيخ رفاعي سرور رحمه الله، والشيخ د هاني السباعي، وننوه خاصة بتحقيقات الدكتور أكرم حجازي التي يجد فيها القارئ كمّاً هائلاً من الاستشهادات والنقول من المختصين في الساحة السياسية. كذلك ما دوّنا من قبل في مجال الفرق والعقيدة
(1) المعطيات:
معطيات الفكر السياسيّ الإخوانيّ في موضوع الدولة:
الإخوان، كأي تنظيم اجتماعيّ بشريّ، يتفقون على مبادئ عامة، ثم يختلفون على بعض تطبيقاتها، حسب شخص الناظر منهم..
شكل الدولة:
أما المبادئ التي يجتمعون عليها بشأن "الدولة الإسلامية"، فهي أنّها دولة "حديثة"، أي تخضع، خارجياً، للمعايير الدولية في إقامة الدول، وأشكالها، وتدخل تحت هيئاتها العامة ومؤسساتها العالمية، كالأمم المتحدة، وتعترف بمواثيقها ومعاهداتها، ومنظمات العفو الدولية، بل وتتعامل مع صندوق النقد الدوليّ، بضوابط تتغير حسب شخص القياديّ الإخوانيكما أنهم يرونها داخلياً، دولة تقوم على النظام الديموقراطيّ الانتخابيّ، من حيث يصورونه على أنّه الشورى الإسلامية، وأنه الوسيلة الحديثة لتطبيق مذهب الشورى. وهم في ذلك يُدخلون عنصر الواقع في معادلة عقدية، من حيث إنهم يرون أن المسلمين هم الأغلبية بالفعل في بلاد الإسلام، فواقعياً وعملياً، ستأتي ديموقراطية الأغلبية بالمسلمين وبالتالي بشريعتهم، يُملونها من داخل التنظيمات البرلمانية، والهيئات التشريعية، بحكم الأغلبية.
الأسباب:
كما أنهم يؤمنون بارتباط الأسباب الدنيوية مع نتائجها ارتباطاً لا فكاك منه، وإن لم يصرحوا به في منشوراتهم أو يظهروه في خطابهم. وهم في ذلك يتبعون الفكر الإعتزاليّ عملياً لا نظرياً، من حيث لا يشعرون. فهم يتعاملون مع النظم العالمية من حيث أن قوتها ومكانتها سببٌ في وجوب اعتبار طرقها ووسائلها، وأنّ التفاعل معها على مائدتها وبشرائطها، سبب للوقوف معها على بساط واحدٍ. ومن ثم، فإنّ هذا يرتبط بما قدّمنا من أنّ "تغيير" الواقع غير ممكن، ولا يرتبط بإرادة ما، بل هو سببٌ تنشأ عنه نتائجه التي يتعاملون معها حسب قانون الأسباب والمُسبّبَات.
الواقع:
وهم، في الحقيقة، يعتبرون الواقع إعتباراً كلياً، ويرونه، من حيث يرونه، حاكم بذاته، وأن قوالبَه الحاضرة هي التي يجب أن تتشكل بها "الدولة الإسلامية"، بل إنهم لم يتلفظوا باسم "الإسلامية" مراعاة لذلك الواقع لديهم، فهم يتحدثون عن دولة مصر الديموقراطية الحديثة، لا "الإسلامية"، ولا يعتبرون هذا إلا بابا من أبواب "الحيلة" على المجتمع الدوليّ، ليمرّر دولتهم عبر قنوات مؤسساته وهيئاته. فالواقع هو الثابت، والشكل الإسلاميّ هو المتغير. ويجب أن يتشكل المتغير حسب قواعد الثابت ومعطياته. ومن ثم، فهم لا يرون إمكانية "تغيير" الواقع، لأنه الثابت.
معطيات الفكر التيار السلفي الجهادي في موضوع الدولة[2]:
ويختلف هذا الفكر اختلافاً جذرياً أصلياً مع فكر جماعة الإخوان، ومن سار على دربها مؤخراً كالجماعة الإسلامية في مصر. فالمبدأ التي تجتمع عليها طوائف الفكر السلفيّ الجهاديّ، وإن اختلفوا في بعض تفاصيله، إلا إنها تتفق في عناوينه الكبرى، كما سنشير اليها هنا
شكل الدولة:
الحقيقة التي قد يستغرب لها الباحث هنا، أن هذه النقطة لم تسترع انتباه غالب الجماعات التي تنتمى لهذا الفكر، إلا من ناحيتها العقدية، لا من الناحية التطبيقية، أو على الأقل بأي شكلٍ يحمل تفصيلاً تطبيقياً.
فمن الناحية العقدية، نجد أن أصحاب هذا التيار يرون أن "لا حكم إلا لله"، وأنّ ذلك هو أسّ التوحيد العملي، الذي دونه الكفر، وأن الشريعة هي المصدر الأوحد للتشريع، على اختلاف في مصادرها لدي البعض بين سنة أو ظاهرية. وهم من ثم يبنون مواقفهم من مخالفيهم على هذا الأساس، وهذا الأساس وحده لا غيره. ومن ثم، فهذه العقيدة هي التي يجب أن تحكم الدولة، أيا كان شكلها، داخلياً أو علاقاتها خارجياً، وهو باب الولاء والبراء.
وإذا نظرنا إلى شكل "الدولة" داخلياً، فهي تقوم على نهج "الخلافة"، فلا يسمى رأسها رئيساً، بل أميراً للمؤمنين، ثم يطلب بيعة، لا انتخابا، ولا يحتمل الأمر تعدداً في "الترشح"، بل يُقتل من يدعو إلى نفسه للترشح في مواجهة "أمير المؤمنين". وأمير المؤمنين، يصل إلى هذا المنصب بموافقة "أهل الحل والعقد"، وهم كجماعة البرلمان في العرف الديموقراطيّ، إلا إن العامة لم ينتخبوهم لهذا المنصب، وما يكون لهم، إذ هذا يجعل أمر الدين مشاعاً، ويُرجع الحكم للأغلبية، التي قد تكون مسلمة أو غير مسلمة. وحكم الأغلبية مرفوض عقدياً بشكل قاطع. كذلك، فإن أتباع هذا التيار لم يحزموا أمرهم بالنسبة لتعريف الدولة وحدودها، فإنه بالرغم من معارضتهم للشكل العالمي الحديث للدولة، وخاصة فيما يتعلق بالحدود، فإنهم لم يقدموا بديلاً واقعياً لهذا الشكل، بل اكتفوا بالحديث عن سقوط سايكس-بيكو، ووحدة "الأمة"، وردة القومية والوطنية، وهذه المفاهيم التي يجب أن تختفي من "الدولة" الإسلامية.
وهناك طائفة داخل هذا التيار، تميزت عن بقيته، وأصبحت مؤخراً "ظاهرة"، تلفت انتباه علماء الاجتماع والباحثين خاصة. خلاصة الأمر في "شكل الدولة"، عند هؤلاء، هي الدولة "الدكتاتورية" التي تتخذ النموذج "الهتلري" أنموذجاً في العلاقة بين التابع و"التنظيم". وهذا الشكل، قد نجح من خلال عملية دعاية مكثفة، تدعو "للتنظيم" ذاته، وتعطيه صبغة دينية بحتة، كأنه مطلوب لذاته، ومقصد شرعيّ أصليّ. وتصل، من خلال هذا التوصيف "للدولة" المقدسة، إلى تقديس الأشخاص القائمين عليها. وهي خطة في غاية الذكاء والمهارة. وقد تهيأ لي قريباً مناقشة شخصية من أحد أتباع "الدولة"، فإذا بتغيير رهيب ساحق، قد طرأ على طريقة تناولها للأمور، ونظرتها للعامة والعلماء، وتصوراتها لقدسية "الدولة" ككيان "باقٍ" وإسباغ صفة الخلود عليه، وكانت هذه المناقشة هي ما أوردت في نفسي النموذج الهتلري، الذي جعل "الرايخ الثالث" دولة مقدسة، وجعل هتلر، تبعاً لذلك، مقدساً لدى الأتباع. وفي ظاهرتنا هذه، فإن استخدام "الدين" و"الشرع" لإصباغ هذه الصفة التقديسية، والتي تمثلت في أعلى درجاتها في تعبير "#باقية"، وجعلت حتى مناقشة أمرها، بأي شكل من الأشكال، هرطقة غير مقبولة، وجعل مخالفيها "مرتدين" ديناً. وهي الظاهرة التي تُعرف في عالم الفرق الإسلامية بالحرورية.
أما عن شكل العلاقات الخارجية لهذه "الدولة"، عند أتباع هذا التيار السلفي الجهادي الجديد عامة، بما فيه أصحاب تلك الظاهرة، فإنه لم يظهر في هذا البعد أي منحى يشبه من قريب أو بعيد كيف يكون هذا التعامل، إلا، مرة أخرى، نصوص للفقهاء الأُول، كالجويني وابن القيم والماورديّ. وتقوم فكرة العلاقات الخارجية، عند أصحاب هذا التيار على مفهوم للولاء والبراء. وهو، بالنسبة لهم، مفهوم مباشر لا التواء فيه، بل ولا تفصيل، يتلخص في آية الممتحنة "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌۭ فِىٓ إِبْرَ ٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذْ قَالُوا۟ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ ٰٓؤُا۟ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاٰوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحْدَهُۥٓ".
الأسباب:
والبعد السببيّ في نظر هذا التيار هو بعدٌ قريب الشبه إلى التصور السببيّ الصوفيّ، أو الأشعريّ، بشكلٍ لا-شعوري. والحق أنهم للتصور الصوفي أقرب، إذ الأشاعرة يفصلون بين السبب ونتيجته صورياً، ولا يرفعونه من صورة الأفعال بالتمام. بينما النظر الصوفي، وقريب منه التصور السلفي الجهاديّ الجديد، يعتمد على البعد الغيبي والمدد الإلهي بطريق مباشر، دون النظر إلى السلسلة السببية التي بنى الله سبحانه عليها الكون، وسننه في الدنيا والآخرة، وربط بها الأعمال ونتائجها، في الدنيا والآخرة. وهي سبب طبيعي ومباشر لتصورهم عن الواقع كما سيأتي.
الواقع:
أما عن نظرة أبناء هذا التيار للواقع (تيار الجهاد السلفي وبخاصة الحروريّ)، فهي مختلفة تماما عن نظرة الحركات "الإسلامية" التي ذكرنا. والحق، أنهم لا يكادون ينظرون إلى الواقع على الإطلاق، أعنى خارج دائرتهم الضيقة. فالواقع بالنسبة اليهم، شئ حادث، غريبٌ، يجب أن لا يكون موجوداً، بل يجب أن يكون معدوماً، وبتجاهله، يمكن أن يختفي. بل بمجرد إعلان دولة الإسلام، أو خلافة أو إمارة، أو ما شئت، ستختفي بقية دول العالم، بقدّها وقديدها، ولن يكون هناك، من ثم، داع لعلاقاتٍ أو تعاملات أو تطبيقات لولاء أو براء. بل هو مجرد غزوهم في عقر دارهم، في القارة الأمريكية، وأوروبا، ثم آسيا والصين، وهم، هؤلاء الكفرة، ساكتون لا يحيرون فعلا، ولا يردّون غزواً. ذلك هو، في حقيقة الأمر، تقدير هذا التيار للواقع الخارجيّ. إلا من آثر منهم التعامل بشكلٍ خفيٍّ مع "الواقع"، فأخذ مالاً، وعتاداً، ودخل بهما حلبة التيار السلفي الجهاديّ، من الباب الخلفيّ!
وقد أفرزت الأحداث الأخيرة، علي الصعيدين العراقي والشامي، عدداً من الجماعات الإسلامية التي تحمل هذا التصور، تتراوح في أعداد منتسبيها بين العشرة والعشرة آلاف مقاتل، على أكثر تقدير. بدأت في قتال الروافض في العراق، ثم تابعت إلى الشام، ثم لحقت إحدى هذه التنظيمات، المعروفة بتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق "، إلى الشام، وخاضوا، ولا يزالوا، معارك مع بقية الكبهات والكتائب المسلحة في الشام، على أصل أنهم "الدولة"، وأن بيعتهم هي "البيعة"، وأن أميرهم هو "الأمير"، بل أمير المؤمنين كما يسمونه.
إلا أنّ كل تلك الأحداث، والتنظيمات التي أحدثتها، والأصول التي بنيت عليها تلك التنظيمات، عليها إشكالات عديدة، منها شرعية، ومنها واقعية، أعنى في تطبيق أحكام الشرع على مناطاتها. من ذلك مفهوم البيعة والإمامة والتمكين. لكن، الأهم، هو ما سنتناوله في بيان صحة تطبيق تلك المفاهيم على واقعنا الحالي، كما سنبيّن في المقال التالي إن شاء الله.
يتبع إن شاء الله
(2) الإشكاليات
13 رجب 1435 – 12 مايو 2014
(2)
الإشكاليات
نعزو تلك التصورات كلها، والتي تعجّ بها ساحة العمل الإسلاميّ إلى عاملين مشتركين بينها، ثم إلى عوامل خاصة بكل جماعة. أولهما: الإحباط الديني والنفسيّ الذي يشعره أبناء هذا الجيل من جرّاء بُعد مجتمعاتهم عن الإسلام، عقيدة وعملاً. فالأمر بُعده نفسيّ أولاً وأخيراً، سواء عند قادة تلك الجماعات، أو عامتهم. والحق، أنه ليس في قيادات ذلك التيار "السلفي الجهادي الجديد" قيادات لها خبرة وتأسيس، إذ هو تيارٌ ناشئ وليد كله، لا تزيد أعمار قياداته عن بداية الأربعينيات، مما يجعلهم جيلاً حديثاً قليل البضاعة في الخبرة، ويكاد يُلحقهم بأتباعهم في هذا المجال. بينما اتجاهات أخرى، كالإخوان أو قاعدة الجهاد، تجد فيهم جيلاً مخضرماً، عاش خلال عهود مختلفة وعاشر أنظمة طاغوتية متعددة، ومنهم من جاهد مختلف قوى الصهيو-صليبية كالشيخ الجليل أيمن الظواهريّ، حفظه الله، أو قيادات الإخوان عامة، على ضلال منهجهم. والعامل الثاني هو ضعف العلم الشرعيّ بين "شرعييهم" أو "فقهائهم"، في التيارين، واقتصار عوامهم على التقليد الأعمى في طرفٍ، والاجتهاد المطلق في بعض المسائل المفصلية في طرفٍ آخر.
إشكاليات الفكر السياسيّ الإخوانيّ في موضوع الدولة:
أما العوامل التي اختصت بها جماعات الحركة الإسلامية الديموقراطية، فهي تتلخص في إشكالية التعامل مع أبناء الأمة ممن ليسوا من المبايعين لها. فمن ناحية، تجد الجماعة منفتحة على "الأمة"، التي هي كلّ من عاش على أرض الوطن المشترك لديها، حتى اليهود والنصارى والمجوس. وقد رأينا كيف أنّ تلك الجماعة لا ترى مانعا من حاكم قبطيّ، أو امرأة، بل تجد في هيئتها الحزبية نصارى مثل رفيق حبيب. لكنها في نفس الوقت، منغلقة على نفسها، تستخدم من لا يبايعونها، ولا تتحشى من هذا الاستغلال، الذي تبرره بالصالح العام لجماعتها. وهذا أسوأ ما يمكن أن يكون من تصور للعلاقة بين "الجماعة" و"الأمة"، إذ فيه ما فيه من كذب واستغلال وخداع، بل ونفاق. كما أنك واجدٌ، نتيجة لهذا المنهج، إشكالية أخرى، وهي بناء تنظيمهم علي مبدأ "الولاء لا الكفاءة". فالجماعة لا تقبل في هيكلها إلا من ينتمون اليها،وإن قلت أو انعدمت كفاءاتهم. والآخرون "متعاطفون"، يستخدمونهم لتحقيق أغراض، مادية أو معنوية.
شكل الدولة:
- والشكل الذي تطرحه معطيات الفكر الإخواني الديموقراطي، لا يكاد يتميز عن الطّرح الديموقراطيّ العلمانيّ، سواءً في البنية أو الهيكل التشريعي والتنفيذي والقضائي، والذي يعتمد الانتخابات العامة طريقا لشغل مناصب هذا الهيكل. وهذا الطرح له إشكاليته في الفكرة الإسلامية. إذ إن هذا البناء يقوم على قواعد الديموقراطية، التي هي حكم الأغلبية، مسلمة كانت أو نصرانية أو مجوسية. وهي فكرة مرفوضة عقدياً، إذ تخالف أساس التوحيد الذي لا يمنح المُشرك ابتداء أيّ حقٍ في الهيكل التشريعي والقضائي، ويقيد دوره في الهيكل التنفيذي.
- ولهذا، فإن الطرح الإخواني لم يقدم جديداً في هذا المضمار، ولم يتخذ من المصادر الشرعية مصدراً إلا مبادئ عامة، في أعلى مستوياتها، والتي أسموها مبادئ الشريعة[3]. وهذا يتفق مع النظرة العلمانية التي لا تبالي إن أخذت بالمبادئ العامة للشريعة، فهي قواسم مشتركة لدى المسلم والكافر، وهي من قبيل العوائد التي لا تختلف باختلاف الأعصار والأمصار، والتي غالبا تكون مما اتفق عليه عقاء الجاهليات المتتابعة، بعيدا عن هدي الوحي، وتلقته عقولهم بالقبول[4].
- أما عن العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية الإخوانية، فإن إقرارها بالمعاهدات والمواثيق الدولية، يُعتبر إشكالية أخرى، من المنظور الإسلاميّ. إذ إن تلك المعاهدات والمواثيق تقوم على مبدئين، أولهما حفظ المصالح الحيوية الصهيو-صليبية، وثانيهما المرجعية العلمانية لتلك المواثيق. لكنّ هذا التوافق يأتي من مبدأ اعتمدته الجماعة في تنظيم الدولة الداخليّ، وهو "المشاركة لا المغالبة". وهذا يوقع الجماعة في حرج كبير واشكالية عميقة مع الفكرة الاسلامية. إذ يقود مباشرة إلى التصادم مع النصوص، والاجتهادات المبنية عليها، بدافع المصلحة، التي يجعلونها مرجعا شرعياً عاماَ، كما فعل الطوفي الحنبليّ[5]. بل يقودها إلى التسليم المطلق للقوى الخارجية في نهاية الأمر، فمتى بدأ الانزلاق في هذا الاتجاه صعب تقييده وتحديده. ولا يخفى ما في مثل هذا الانزلاق من هدم لساسياتٍ ومطلقات وثوابت شرعية تودي غاليا إلى خرم التوحيد والتفلت من الدين بالكلية.
الأسباب:
والنظرة الإخوانية في علاقة الأسباب بالمسببات، نظرة خاطئة ابتداء من المنظور الإسلاميّ، فإن الله خلق النتائج تتبع أسبابها، لكنّ هذا لا يعنى أنّ ما نراه في عالم الأسباب لا يمكن أن تنشأ نتيجة بخلافه، أو يقع أمر لا يوافقها. وكمثال إدعاء أنّ أمريكا تمسك بمفاتح الدنيا كلها، وهو صحيح في عالم الأسباب التي تحدها أمور كثيرة، فإن أمريكا لها حساباتها الخاصة في تناول الأمور أولاً، ثم إن ما يراه الخصم من قوتها وسيطرتها، فإنما يراه من منظور ضعفه هو قبل منظور قوتها. وهذا التصور ينشأ في النفس استلاماً للأقوى، من حيث أنّ قوة الخصم لا بد أن ينشأ عنها هزيمة الأضعف، بلا استثناء.
ولو عرضنا مواقف الإخوان بعامة على هذا النظر لوجدناه سبباً في الكوارث التي حلّت بالحركة المصرية والتونسية، ومفسراً لمواقفهم الانهزامية في علاقاتهم الخارجية وضعفهم في وجه القوى الفاسدة الداخلية.
الواقع:
والواقع الذي تحدثنا عنه عند قادة هذا التيار، ينشأ عنه إشكالية محيرة، إذ إنه يعتبر السطوة الصهيوصليبية كاملة تامة، ومن ثم يحاول التحاور معها، والرضا والخضوع لقرراتها، من حيث هو يريد، غائياً، أن يتخلص من سطوتها.
كذلك فإشكالية التعامل مع الهيئات والمؤسسات الاجتماعية والتنفيذية القائمة، فإن الواقع يملى التعامل معها، إذ لا دعٍ لاستبدالها، فالقائمون عليها "مسلمون"، وهي مؤسسات "شرعية" لا تحتاج هدماً بل إصلاحاً، حتى المؤسسات العسكرية والأمنية. وهذا ما يبرر سقوط دولة الإخوان في مصر في عامٍ واحدٍ، بسبب خلل تقييم الواقع لديهم، ومن ثم كيفية التعامل معه.
إشكاليات الفكر السياسيّ الحروري الجديد في موضوع الدولة:
أما هذا الفكر، فحدث ولا حرج، عن نقاط ضعفه وتناقضه وتبسيطه المخلّ. ولعل من أسباب اتباع كثير من الشباب العاميّ لهذا الفكر ما يلي:
- اليأس من التغيير، بأي طريقة أخرى غير التي يرونها، خاصة ما كان من تجاربٍ فاشلة، عقدياً وعملياً، في مصر وتركيا على سبيل المثال، مما استبدل مواجهة "الواقع" لدى هؤلاء، باستبطان "حلم"، ثم العمل على الوصول اليه، دون التفكير في مدى واقعيته.
- ضعف العلم الشرعيّ والوضعيّ، والإقتصار على مصادر السلف الصالح في وضع تصور دولة إسلامية، في القرن الحادي والعشرين، أو الخامس عشر هجرياً.
- قلة الخبرة والوعي بما هو عليه واقع الدنيا اليوم، وعدم إدراك التوازنات العالمية على الأرض.
- انعدام العلماء الربانيين من الطبقة الأولى، الموجّهين لحركة هذا القطاع من الجيل[6]، في الاتجاه الصحيح، مما أدى إلى أن يكون تحرك أبناء الإتجاه مبنيّ على تصورات طلبة علم، صغار في السن والعلم والخبرة، فباءت محاولاتهم بالفشل، كما رأينا في تجربة "الجماعة الإسلامية المسلحة"، التي كانت وليدة تجربة حركة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، والتي فشلت بدورها لتبنيها النهج الديموقراطيّ، ولأسباب أخرى ذكرناها في محل آخر[7]، وبرغم ذلك، فإنها قد أنتجت حركة جهادية أخرى كانت الأقرب للنجاح، وهي الجماعة الإسلامية المسلحة" في طورها الأول، بقيادة أبو عبد الله أحمد، لولا ما آل اليه فكرها الحروريّ، على يد الزيتوني والزوابري من بعده، فأجهضاها، وأفشلا التجربة الجهادية برمتها. فكأنما ولدت حركة الإنقاذ المُفرّطة حركة الجماعة المسلحة المُفرِطة، حسب نظرية "البندول"، التي نتبناها في فهم الحركة التبادلية بين طرفيّ المعادلة الإسلامية. لكننا هنا لا نرى أنّ شكل "الدولة" كان من النضوج الكافي لدي هؤلاء جميعا كي يصل بها إلى مرسى الأمان، على أية حال.
شكل الدولة:
(1)
مقدمة:
- وهذا البعد النفسيّ الذي ذكرنا آنفا، هو الذي يجب أن يشد اهتمام الباحثين في أمر الإسلام، والجهاد العالمي خاصة. فإنه هو المحرك الدافع وراء كافة التصرفات، والتصورات التي تعج بها الساحة، إن استثنينا العملاء فيها. وهذه الحقيقة تجعل أبناء هذا التيار، سواءً المشاركين فيه فعلاً على الأرض من مجاهدين، أو أتباع الفصائل المختلفة على الصعيد الإعلاميّ، هم آخر من يجب أن يُستمع اليهم في تحليل الموقف القائم في ساحة القتال، إذ إن نظرهم يفتقر إلى الموضوعية اللازمة للوصول إلى القرار الصائب، وأعنى به على المستوى الاستراتيجي، لا على مستوى التحركات اليومية من موقع إلى آخر، أو تقديم وتأخير أوقات الهجوم وغير ذلك. وهذه القرارات الأخيرة، هي من عمل القادة الميدانيين بالقطع.
- أما ما قصد اليه علماء السلف، ممن أشاروا إلى أنه يُستمع إلى علماء[8] الثغور، فهو فيما يخص أوضاعهم في الساحة الجهادية، إذ يلجأ اليهم القادة هناك ليُفتوا لهم في معضلاتهم الشرعية، كموضوعات الأسر ومعاملة المحاربين، وتوزيع الغنائم وما إلى ذلك. وأما ما نقصد اليه هنا، فهو أمر مخالف للشأنين اللذين ذكرنا. فإن التقدير العام لتوجه الحركة الجهادية، يصعب، بل قد يستحيل على من هم في غمار الأحداث أن يقوّموه. وهو أمر عام شائع في كافة أمور الحياة، أن يعجز المرء عن تقدير حقيقة موقف ما طالما هو جزء منه. بل الأفضل إما أن ينفصل عنه أو أن يكون أساساً ممن هو خارجه، ليصلح النظر، ويصح الاستدلال.
- لهذا، فإنه قد غابت حقائق وتقديرات كثيرة جدا، عن أنظار قادة تلك التنظيمات، حتى ورّطوا الساحة في أوضاع لا يرون حقيقة أبعادها وخطورة نتائجها، مما يجعل نهاية هذا الوضع الحاليّ لا تشير إلى أيّة بشارة خيرٍ، عند أصحاب العلم والخبرة والموضوعية.
(2)
- الحركة الجهادية السنية العالمية، التي تقوم بالجهاد اليوم، منها ما يعرف معنى الدولة من حيث مارسها، كما في قاعدة خراسان، من خلال ملازمتهم لدولة طالبان. ومنهم من يريد أن يعرف ضوابطها وحدودها، وهم من في قاعدة الشام، كالنصرة، أو الملتزمون بالقاعدة في بلاد أخر. ومنهم من يتيه في صحراء الأحلام، لا يعرف "دولة" شكلاً ولا موضوعاً، إلا أمنيات تجترها قياداتهم، يغذون بها أحلام تابعيهم، وهم أصحاب الجهاد الحروريّ. ونركز كلمتنا هنا على هؤلاء الأخر، من حيث أنّ قاعدة الشام، تسمع وتطيع لمن هم أعلم منها وأسبق في هذا المضمار، أما هؤلاء فإن رؤوسهم حديثة عهد بعلم وجهاد، مع انحراف رؤية وتصور، مما يسميه أهل السنة ابتداعاً.
- والاشكاليات على النظر السلفي، خاصة الجهادي الحروريّ منه، كثيرة متعددة، لدرجة تجعل تكوين الدولة ذاتها، وبناءها الداخلي، أمر مشكوك في القدرة علي تطبيقه، لضبابية مفاهيمه، بل لانعدامها نظرياً. فالحركة هي التي تحدد شكل الكيان الذي يرسمون صورته، لا استقرار وضع على الأرض، وهو ما يجعل "الدولة" هلامية الشكل لا استقرار فيها، إذ هي في مكان ما في يوم من الأيام، ثم إذا بها تتركه في اليوم التالي، كما حدث في إحزاز وكريتان وكفر حورة على سبيل المثال، حين تمّ إخلاؤها من قبل تنظيم "الدولة". وهذه إشكالية كبرى ينعكس أساساً على موضوع البيعة كله، ويضعه رهن التساؤل.
- و"الدولة" عند هؤلاء هي "اسم" أكثر منه حقيقة، سواءً في التعريف الغربيّ، أو في التعريف الإسلاميّ[9]. فأنت واجدٌ أنّ ما أطلقوا عليه "الدولة الإسلامية في العراق والشام" هو في حقيقته تنظيم كبقية التنظيمات التي تعُجّ بها الساحة، تتحدد جغرافياً بحواجز على مناطق سيطروا عليها، وتتكون من مجموعة مقاتلين، وهيئات تدير بعض أنشطة إجتماعية قائمة بالفعل في تلك المناطق، بعد تغيير اللافتات التي على جدران منشآتها. ثم هذه الحواجز يتغير وضعها بين يوم وليلة، حسب الكرّ والفرّ. وليس لهم منطقة مركزية يُرجع لهم فيها، وهي ما اصطلح على تسميتها "العاصمة"، والتي تمثل مركز الدولة في المفهوم الحديث، وفي المفهوم الإسلاميّ المحدث على السواء.
- والفكرة العقدية[10] التي تبنونها فكرة إسلامية بدعية، عرفت بالحرورية[11]، وهي فرقة لم يكن لها في يوم مركزاً أو عاصمة أو دولة أو حتى إمارة صحيحة. إذ إن فكرتها تقوم على محاربة "الأمة" التي تعتبرها كافرة بعامة، ومن ثم، فإن تلك الفرقة قد آل أمرها على الدوام إلى أن استهلكتها الأمة، وهضمتها، وقذفت بها خارج جسدها كما يقذف المرء بقاياه.
- ثم إشكالية أخرى، لا تختصّ بها الفكرة الحرورية على وجه الحق، بل تشاركها فيها كافة تيارات السلفية الجهادية، وهي إنها لا تعرف آلية حقيقية حتى الآن، لتمييز "أهل الحل والعقد"، عدا استناد كلّ طائفة على نصوص أئمة السنة والجماعة، في تعريفاتهم العامة التي وردت في كتب السياسة الشرعية القديمة. أما آلية اختيارهم، ومن يستحق أن يكون منهم ومن لا يستحق، وأي محلة لها أن تدعى أنّ أهل حلّها وعقدها هم "أهل حل وعقد" كافة مسلمي الأرض؟ فهذه الأسئلة لم تُطرح بأي جديّة على وجه الإطلاق.
يتبع إن شاء الله تعالى
تكملة الإشكاليات 3
د طارق عبد الحليم
21 رجب 1435 – 20 مايو 2014
(3)
إقامة الدولة:
سبق أن قررنا بعض الإشكاليات التي تُطرح على الفكر الجهاديّ، خاصة الحروريّ، بشأن إقامة "دولة". ونعيد القول الذي سبق أن قررناه من قبل بهذا الشأن، في رسالتنا المفتوحة إلى قادة تنظيم البغداديّ، قلنا فيها "التعامل مع مصطلح "الدولة"، وما جرّه ذلك المصطلح من أزمات على ساحة الحركة الإسلامية كلها في الشام. فقد انطلقت "الدولة" من قناعات وتصورات، لا أقول إنها أخطأت فيها، قدر ما أقول إنها قد خُلّط عليها أمرها فيها، فاستصحبت أفكارا وأوضاعا سياسية وتركيبات اجتماعية لا تنطبق على أرض الواقع من ناحية، ولا تسير على نهج الشرع أو رواية التاريخ من جهة أخرى، حتى وإن أقر عليها الشيخان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وهي إنها "دولة".
وقد ساءلت في مقال سابق لي، لا بأس من نقل جزء منه هنا لأهميته، قلت "غموض مفهوم "الدولة" لدى مسؤوليها، وبالتالي لدى أتباعها ومن يتبع الأحداث. فالدول، من حيث هي دول، لا تزال تنظيمات اجتماعية، تقوم بأدوار معينة، في مجالات الحياة، وهو ما قد تقوم به جبهات أو إمارت، أو ماشئت. وفي رأينا أن توصيف "الإمارة" أقوى من توصيف "الدولة"، إذ توصيف الدولة أمرٌ لا دلالة عليه في الشرع، بل هو تاريخي وضعي، أمّا الإمارة، فهي مما ثبت شرعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وتابعيهم. ومن تمسك بتعبير الدولة إنما وقع في شرك تسمية محدثة، وتعريف وضعيّ، بنكهة إسلامية! وإلا فيجب أن يتحدد معنى "الدولة" المقصودة هنا، وما تشبيهها بدولة المدينة إلا إسقاط لتسميات مؤرخين مُحدثين على وضع الجماعة المسلمة في المدينة وقت النبوة. ولم يكن معروفا أيامها "دولة" مكة في مقابل "دولة" المدينة. وما هذا التمسك إلا أثر من الآثار الخفية لسايكس بيكو[2]، التي تعطي تعبير "الدولة" احتراماً وحقوقاً أكثر من الإمارة أو الولاية أو الخلافة".
الشاهد أنّ تنظيم "الدولة" هنا، قد ألزم نفسه، وعامل غيره، بمفهوم غير واضح ولا مستقر. فإن عنى بإطلاق لفظ "الدولة" ما يقصد به القانونيون في العصر الحديث، فلابد لها من عاصمة، وحدود مستقرة، لا تتغير كل فترة حسب ما تفقد من أرضٍ، أو تستولي عليها. وأظن أن "الدولة" لا تقصده، من حيث إنه اتباع لمفهوم سايكس بيكو في تقسيم أرض الله! وقد كانت الدولة الكندية عرضة للإنقسام عام 1996، من قبل الجزء الفرنسي فيها، وكانت تستعد لتغيير كلّ ما هو متعلق بكيانها إن حدث الانشقاق، إذ تغير الحدود يملى تغيرات كثيرة تتبعه، في منطق الدول الحديثة. وإن لم تكن تقصد هذا المصطلح بمعناه الوضعيّ، فلماذا تحارب دونه، وتوالى وتعادى دونه، بل وتغرس في عقول أتباعها وأنصارها كلّ هذا التحيز والتعصب للمصطلح، حتى إنهم يفاصلون عليه. ثم إن "المدينة المنورة" لم تكن دولة، ولم يُطلق عليها أحدٌ اسم الدولة إلا المؤرخين المحدثين في القرن الماضي. ولذلك قال د أيمن الظواهري "ليس هناك شيء الآن في العراق اسمه القاعدة، ولكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين اندمج بفضل الله مع غيره من الجماعات الجهادية في دولة العراق الإسلامية حفظها الله، وهي إمارة شرعية تقوم على منهج شرعي صحيح وتأسست بالشورى وحازت على بيعة أغلب المجاهدين والقبائل في العراق". فكما قلنا في مقالنا السابق، إن توصيفها الحقيقي في العراق هو "الإمارة"، وهي بإذن الله مشروع دولة، إن التزمت بالسنن.
بل إن حركة حماس، التي تتحكم في قطاع غزة منذ سنين، لا تعتبر دولة على وجه الحقيقة.
إذن، فنحن نرى أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ليست إلا إمارة شرعية، تقوم على تنظيم جهادي على الأرض، وإن اختار لنفسه أن يسمي كيانه "الدولة". ونرى أنّ هذا كان مقنعاً في وقتٍ ما بالعراق، من حيث أنّ هناك دولة المالكيّ الرافضية، ودولة الأكراد ذات الحكم الذاتي، فلم لا يكون هناك "دولة" للسنة، إغاظة للعدو، واستعدادا لما هو آت؟[3]" اهـ
ولنتحدث هنا بشكل أكثر تفصيلاً في هذا الأمر، وسأطرق هذا الموضوع بشكلٍ أحسبه جديدن يناسب ما نحن فيه. فنقرر أنّ هناك وجهان أساسيان في موضوع إقامة الدولة.
- الدولة الإسلامية شكلاً وتنظيما:. وهذه الوجه يتعلق أساسا بثلاثة نقاط بارزة:
التمكين: والتمكين ركن من أركان إقامة الدولة، لا شرط من شروط إقامتها. والفارق هنا أنّ الركن يقع من داخل العمل، أمّا الشرط فيقع من خارجها. وهذه من النقاط التي خفيت على مؤسسي ما أطلقوا عليه "الدل الإسلامية"، إذ عدوا التمكين شرطاً، والشروط من أوصافها أنها قد تكون شروط صحة أو شروط كمال، كما يمكن أن يؤجّل الشرط لسبب من الأسباب، أو يصح العمل دونه في بعض الصور. أمّا الركن فلا. فلا دولة دون تمكين، قولٌ واحد. كما لا صلاة دون تكبير، ولا حج دون وقوف بعرفة. والتمكين كلمة ليس لها حدّ محدود بمعنى أنه يصف كلّ ما يقع في حيزها، وما يخرج عنه.
والتمكين له شقان:
المُمَكَّن فيه: وهو الممالك والأراضي التي يقع عليها التمكين، ولا معنى لتمكين إلا بها، وإلا كان التمكين كعدمه، وهماً لا أكثر. وقد أكثر الناس في الحديث عن هذا الأمر، لكن نتفرد هنا بما يستحق النظر خاصة ما نرى أنه فات على أكثرهم. وهو أنّ ما كتبه القدماء من حدود وتعريفات للتمكين، تعتمد كلها على أنّ هناك مُمَكَّن فيه ابتداءً. ومن ثم، تحدثوا عن الأئمة إن عدموا، أو تنازعوا أو شبه ذلك. وما ذلك إلا لأنهم انطلقوا في تنظيرهم من واقع وجود "أمة" وخلافة وعسكر وجيوش، ثم انعدم الإمام، كما في غياث الأمم، أو انحرف أو خرج عليه خارج، كما في الماوردي وغيره. ومن ثم، ناقشوا شرائط الإمام، والتمكين في ظلّ أرض موجودة ودول قائمة بعناصرها، يمكن أن يُمَكَّن فيها.
وادرس هذا الذي كتبه الجوينيّ في "غياث الأمم"، لتعرف مصداق ما ذهبنا اليه. قال في معرض حديثه عن التسليم لإمامٍ ولو من غير عقد بيعة "..أن قصر العاقدون وأخروا تقديم إمام، وطالت الفترة وتمادت العسرة وانتشرت اطراف المملكة وظهرت دواعي الخلل .."[4]. ومثل هذا منتشرٌ في أنحاء الكتاب، يبني عليه أحكام نصب الإمام إنْ غاب لكن دون غيبة المُتَمَكَّن فيه، وهو الأرض والناس، وباختصار "الأمة". ومن ثم، فإننا نحسب أنّ كثرة من كتب في هذا الأمر، اعتماداً على كتب المتقدمين، لم ينتبه لهذا الفرق العظيم بين الحالين، حال وجود المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..) فيه دون المُتَمَكِن (الإمام)، بينما نحن نتحدث في انعدام وجود الاثنين المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..) فيه والمُتَمَكِن (الإمام). بينما تتحدث طائفة الحرورية عن إيجاد المُتَمَكِن (الإمام)، قبل إيجاد المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..)[5]! وهذا قلبٌ للحقائق وقصور فهم لما تدل عليه كتب السلف، ونقص في الوعي بما عليه الماضي، والحاضر، ومن ما يكون عليه المستقبل.
ولقائل أن يقول: كيف هذا، والأمر اليوم هو على ما تصف، ويصف القدماء، وهاهي أراضي المسلمين منتشرة، وممالكهم متسعة، ودواعي الخلل فيها ظاهرة، أفليس هذا ما يصفه الجوينيّ؟ قلنا، لا والله بل هو فرق دقيق لا يفطن له إلا القليل. ذلك أنّ تلك الممالك محكومة ابتداءً بمن هم متمكنين فيها تمكناً أصلياً، لعقود بل قرون، ويحكمون فيها بغير ما أنزل الله، وبقوانين العلمانية. فهي ليست ممالك إسلامية البتة، بل لن يخضع منها أحدٌ لو دعي إلى إمامٍ على ما وصف الجوينيّ. بل إن ما قصد اليه القدماء هو وجود ممالك تقبل بحكم الله أصلاً، وإن مزقتها الخلافات واختلت فيها وسائل الحكم، لكنها لا تزال أرض إسلامٍ، وممالك مسلمة، مُمَكَّن فيها للإسلام، دون إمام. فتنصيب الإمام هو، حين ذاك، واجب الوقت، سواءً ببيعة أو بشوكة أو بغير ذلك لتحقيق المراد من حكم الله للعباد. لكن، هل هذا ما نحن عليه اليوم؟ غن تجاوزنا عن أنّ الأصل في الناس اليوم الإسلام، وهو ما لا تقول به طوائفٌ بدعية، فإن هذا لا يمنع أنّ الممالك لا يد للإسلام فيها، ولا تمكين.
إذن، فإن السعي اليوم لتنصيب إمام، هو لغوٌ لا ينطبق عليه أيّ من حيث القدماء. بل الواجب هو استلهام المنهج الذي نظر به القدماء في هذه المسائل، مسائل الإمامة والبيعة، ثم توجيه النظر بما يليق بما نحن فيه اليوم من حال.
وهذه، فيما نرى، هي الإشكالية الكبرى التي نرى كافة من تحدث في هذا الأمر قد وقع في حبائلها، ولم ينتبه لها، فراح ينقل نصوصاً ويحشد أقوالاً، دون التفكر فيما تقع عليه من مناط. وللأسف، فإن هذه الثقافة، ثقافة النقولات والاستشهادات هي التي باتت تسيطر على كتابات أكثر من نرى على الساحة اليوم من طلاب علم أو رويبضاته، إلا شيوخ الدعوة وعلمائها. فترى المقال أو البيان حشداً هائلاً من نصوص ونقولات، يخرج به صاحبه، أو يخرّجه بما لا يدل عليه أصلاً ولا فرعاً، والله المستعان.
ولعل ما ذكرنا هنا، هو ما أشارت اليه كتابات عدد من علماء الأمة ومشايخ الجهاد، من ضرورة النظر إلى "الأمة" واعتبارها. وهو ما سنكشف عن الاتصال بينه وبين ما عرضنا في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة "الأطروحات".
وهذا التمكين، يحتاج، كما ذكرنا، إلى أرضٍ مُمَكَّن فيها، لا ينازع فيها غير المُمَكَن، وأن تكون هذه الأرض ذات حدود معروفة ثابتة، ليدفع عنها الصائل وتحمى بيضتها وأموالها، كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه سلم، والخلفاء كلهم من بعده. ولا يستلزم ذلك أن لا يُنتقص منها في حينٍ من الأحيان، لكن يبقى مركزها محفوظاً محمياً برياً و بحريا والأفضل جوياً كذلك، لتبقى لها صورة "الدولة" أو "الإمارة" قائمة على الأرض، لا على الورق وفي البيانات.
والتمكين، ليس فيه حدّ معروف جامع مانع، بل هو أقرب بالتعريف التطبيقي من التعريف المنطقي أو اللفظي أو التعريف بالماهية. كما نقول "ما التفاحة"، فيشار اليها "بهذه". إذ تختلف صوره وحدوده من وضع إلى آخر، فيقال "من المُمَكَّن" فيقال فلاناً. ولهذا علامات وأمارات يجب أن يتحقق أقلها ليمكن أن يطلق اللفظ، كما أنه لا يقال عن بذرة التفاح أنها تفاحة. وهذه العلامات والأمارات، هي ما أشار اليه العلماء في كتبهم من أنه يحصل التمكين لصاحب القوة والمنعة والشوكة، القادر لى حفظ الأمة وحماية الديار والذب عن البيضة ودفع الصائل وقطاع الطرق وزجر اللصوص ومعاقبتهم، وإقامة الحدود الشرعية، وإرهاب العدو، وتحصين الحدود.
ومن هنا فإنه لا يقال لمن استولى على أرضٍ ما، وسط مملكة لا يزال ينازع العدو المغتصب في كلّ شبرٍ فيها، عسكرياً، أنها مُمَكّن فيها، إلا بالاستعمال اللفظيّ للكلمة، لا الاصطلاحيّ، والأقرب أنها أرضٌ "محررة"، لا مُمَكَّن فيها. ومن هنا جاء قول من قال بجواز عدم إقامة بعض الحدود في تلك المناطق، لعدم التمكين بأقل حدوده مما ذكرنا، بما يصلح أن يقال أن المسلمون "مُمَكَّنون" فيها.
يتبع إن شاء الله تعالى
تكملة الإشكاليات: 4 المُمَكَّن له: وهو الإمام
(4)
يجب هنا أن نعيد التذكير بأننا آثرنا استخدام مصطلح "التمكين" ومشتقاته، في بحثنا هذا، لعدة أسبابٍ، أولها فكّ الارتباط التلازميّ بين ما نحن فيه اليوم، وبين ما صدرت بشأنه أقوال العلماء القدامى في كتب السياسة الشرعية، لعدم تحقق مناط تلك الأقوال على كثير من المستويات، إلا تشابهاً، فيكون الاستفادة منها على مستوى الأحكام العامة، لا الفتاوى الخاصة. والسبب الثاني، هو البعد عن التوصيفات العامة الكلية، التي يبهر بريقها عقول الخاصة بله العامة، كالأمير والإمام والبيعة. وهي أوصاف شرعية صحيحة يجب استخدامها، لكنّ الموقف اليوم يحتاج إلى تفكيكها، واستعمال مدلولاتها، لا أعيانها، ما أمكن، حيث غابت المدلولات وبرزت الأعيان، تحمل مدلولات أخرى مضللة، للخاصة بله العامة كذلك. ثم سبب ثالث، وهو ربط إقامة الدولة بركنها الذي هو في رأينا "التمكين"، فمن البديهيّ إذا أن نستخدم مشتقاته لنصف مقومات الدولة وعناصر إقامتها.
ذكرنا من قبل أنّ ركن إقامة "الدولة" هو التمكين، وأن "التمكين ينقسم، حسب ترتيب أولوياته، إلى:
- مُمَكَّن فيه: وهو الأراضي والممالك التي يعيش فيها مسلمون قابلون للإسلام، أي مُمَكّن فيها للإسلام.
- مُمَكِّنُون: وهم أهل الحل والعقد، أو الطائفة التي يرضى بحكمها واختيارها المسلمون الذين يعيشون على تلك الأراضي والممالك القابلة للإسلام.
- المُمَكَّن له: وهو هنا إما أمير الولاية، أو الدولة، إن شئت استخدام المصطلح المحدث، أو الإمام أو الخليفة، صاحب البيعة الكبرى والولاية العظمى.
واتضح، فيما ذكرنا من قبل، أنّ ما تحدث عنه الفقهاء، من شقّ "التمكين" الأول، وهو "المُمَكَّن فيه" أي الممالك والأراضي التي يمكن أن ينصّب عليها إمامٌ، وأن تقام فيها الحدود، هي ليست أراض متناثرة تصطرع عليها قوى شتى، لعل أضعفها على الأرض هي القوى الإسلامية. بل هي الأراضي التي يتم تحريرها، والتمكن في حدودها، والقدرة على دفع الصائل عنها، وحفظ أمنها واستقرارها، بشكل دائم يوحى باستقرار حقيقيّ، لا استقرار أسابيع حتى يُطرد منها أتباعها!
والواقع الحاليّ، أو الإشكالية التي يعيشها الجهاد في العصر الحاضر، أنّ هذه الأراضي والممالك، غير موجودة تحققاً، بل هي كما سبق أن ذكرنا، قطع أرض متناثرة، غير مترابطة، لا حفظ لحدودها ولا ثبات لها، مما يقطع الحديث عن "الإمامة العظمي" من باب تحقق وجود المُمَكَّن فيه.
المُمَكِّنُون: أهل الحل والعقد:
وهذا الموضع ينقسم إلى قسمين، حسب طرق تمكين الإمام أو الأمير، إما ولاية الغلبة، أو ولاية الاختيار. والأولى بالقوة، والثانية بأهل الحل والعقد، ولكلٍ مجالها وشروطها.
فأما تمكين القوة، فهو أن يكون للأمير أو الإمام قوة يبسط بها سطوته على الأراضي والممالك التي استوفت الشروط التي ذكرنا، بما لا يدع مجالاً لخارج عليه في تلك الأراضي، أو يكون عرضة بشكل يوميّ مستمر لهجومٍ يمنع من سيطرته وسيادته عليها، وتأمين أهلها، براً وبحراً وجواً. وما من سبيل أن تكون هناك ولاية لأميرٍ، بله إمامٍ، يُلزم الناس ببيعته، ويقتل الخارج عليه، وأراضيه تقع تحت القصف الجويّ مثلا من الداخل والخارج، بشكلٍ مستمر! هذا لا تمكين له بأي شكلٍ من الأشكال، بل هو وهم إمارة عامة لا أكثر، يعيش في ظله عامة من المسلمين، غالبهم يعيش ابتداءً في ظل دول ٍ أخرى معادية للإسلام، ويلتزم وجدانيا بما يسميه "دولة".
إذن، فالقوة المجاهدة هنا، لا يسعها إلا بيعة حرب أو جهاد، لا غير. أما بيعة يلتزم بها الخلق في حياتهم بشكلٍ عامٍ، فهذا خلط في التصورات، وخبلٍ في التهيئات، وصدى "الأنا" المفسدة الي لا تعلم شرعاً من وضع. وسنتعرض لحكم الأراضي المحررة بعد إن شاء الله.
أما تمكين الاختيار، فيستلزم الحديث عن المُمَكِنون أو أهل الحل والعقد وهم من يسميهم الجويني "العاقدون"، وهم قسمان، إمّا المُمَكِنون لبيعة خاصة كبيعة الجهاد، لدفع الصائل، وتحرير أراضٍ يصلح أن تنشأ عليها بعض الممالك التي يُقام عليها خلافة أو إمارة. أو المُمَكِنون لبيعة عامة تقوم بها الإمامة العظمي. وبينهما، عموم وخصوص نبيّنه إن شاء الله.
فأهل الحل والعقد، لهم شروط وردت في كتب السياسة الشرعية، بألفاظ مختلفة. كما قد يناقش الفقهاء أمر العبد والمرأة، وغير ذلك. ومنهم من اشترط القدرة على الإفتاء أو حتى الاجتهاد. لكننا وجدنا الأجمع فيها والأكثر قرباً من الواقع هو ما قرره الجويني بقوله "فالفاضل المطلع على مراتب الإئمة البصير بالإيالات والسياسات، ومن يصلح لها، متصف بما يليق بمنصبه في تخير الإمام"[12]. ويصفهم كذلك بقوله "وهم الأفاضل المستقلون الذين حنكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب، وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية، فهذا المبلغ كاف في بصائرهم والزائد عليه في حكم ما لا تمس الحاجة اليه"[13]. وتعليقاً على هذا الكلام، فإنا نقف موقفاً وسطاً بين الجويني، ومن اشترط الاجتهاد في أفراد أهل الحل والعقد، ونسير على ما قرره الباقلاني في التمهيد، مما نقله عنه الجويني، من أنه "لا نشترط بلوغ العاقد مبلغ المجتهدين، بل يكفي أن سكون ذا عقل، وكيسٍ وفضل، وتهد في عظائم الأمور، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة"[14].
والنقطة الأخرى هي العدد الذي تنعقد به البيعة. وقد زعم الباقلاني في التمهيد إنها قد تنعقد بواحد! وهذا خطأ إذ يناقض أصل التعريف بأنهم "أهل" وهو ما يوحى بالتعدد، وإن لم يلزم عدد معين لذلك. وهو عين ما قال الجويني "مما يؤكد ذلك إتفاق العلماء قاطبة على أن رجلاً من أهل الحل والعقد لو استخلى بمن يصلح للإمامة، وعقد له البيعة، لم تثبت اإمامة"[15].
ولكن، الأمر هنا، والذي تطابقت عليه الأمة، مهما كان العدد، هو أن "ينقاد" بقية الناس لاختيارهم. وفي هذا يقول الجوينيّ "ولكن لمّا بايع عمر تتابعت الأيدي، واصطفقت الأكف واتسقت الطاعة، وانقادت الجماعة، فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة. بحيث لو فرض ثوران خلافٍ، لما غلب على الظن أن يصطلم اتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدد، واعتضدت وتأيدت بالمنة، واستظهرت باسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر، ولمّا بايع عمر مالت النفوس، إلى المطابقة والموافقة. ولم يبد أحدا شراسا وشماسا،، وتظافروا على بذل الطاعة حسب الاستطاعة"[16].
المحصلة هنا تتلخص في التالي كما نراها:
- أن أهل الحل والعقد، الذين يعقدون أو يُمَكِّنون لإمام، يجب أن يكونوا على تلك الصفات المذكورة، وأن يكونوا لذلك من المعلومين لجميع الأمة، بحيث يصح أن يوالوهم على اختيارهم، لا أن يكونوا مجاهيل، غير معروفين إلا لأصحاب محلتهم. وبهذا يمكن التأكد من صحة الشروط التي ذكرنا فيهم. وإلا فبيعة مجموعة ممن هم معروفون لأهل محلة خاصة لا تصلح إلا لبيعة مخصوصة كبيعة الجهاد مثلا، لا تتعدى إلى غير ذلك ولا يلزم منها أكثر من ذلك في رقاب المسلمين.
- أن العاقدين المُمَكِّنين، مسموعو الكلمة من الناس عامة، حتى تتحقق بهم، وبأتباعهم الذين يلتزمون برأيهم واختيارهم، الشوكة والمنعة الظاهرة. وإلا فإن لم يتحقق هذا، فهؤلاء لا فائدة منهم، ولا يحصل بهم شوكة ولا منعة. كما لو اختلف عليهم الناس خارج محلتهم، فصار عقدهم غير مُلزم لأحد.
- أن البيعة العامة، يُشترط فيها المتابعة والموافقة، وإلا لم تثبت. كما يشترط فيها حصول الشوكة و"لو فرض ثوران خلافٍ، لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة، وتأطدت بالشوكة والعدد، واعتضدت وتأيدت بالمنة، واستظهرت باسباب الاستيلاء والاستعلاء".
وهذه الشروط في غاية الواقعية ومراعاة المصالح، ودرأ مفاسد التعارض والاختلاف، ومن ثم التشاحن والتقاتل. فإن البيعة لابد فيها من أن يكون أهل الحل والعقد، في سائر الأمصار، على معرفة بمن أعطى القياد للإمام أولاً، وأن يكون هناك رضا مُتوقع منهم لثبوت البيعة. وإلا فإن من أعطى القياد أولاً، فقد أهليته في إجراء العقد، إذ هذا الرضا هو شرطٌ في صحة العقد، وهو شرك صحة، إذ بغيره لا تثبت البيعة التي هي محل العقد، كما تَحصّل من الكلام.
الاشكالية الحالية، بالنسبة للتصرفات التي اعتمدها الفكر الحروري البغدادي، المتمثل في تنظيم الدولة، أنهم خلطوا خلطا شديداً بين هذه الأمور كلها. فهم قد أثبتوا "بيعة"، لإقامة "دولة"، قالوا إنها ليست بيعة لإمامة عظمى، بناءً على عقد أثبته لهم عدد ممن قالوا إنهم "أهل حل وعقد"، والله أعلم بحالهم على الحقيقة، من أهل محلة في العراق، ثم انتقلوا بها إلى الشام، وألزموا بها أهله، رغم عدم موافقة أهل الحل والعقد في الشام، بل وفي غيرها، عليهم! ومن ثم، كانت النتيجة التي حذر منها الجويني رحمه الله، من أن ذلك لا ينشأ عنه إلا بيعة باطلة مبنية على عقد باطلٍ غير ملزم، لا شرعاً ولا حقيقة على الأرض، كما هو واضح، ثم حرب وقتال، وقتل وانشقاق.
وقل لي بالله عليك، مَنْ مِنَ أهل الحل والعقد، المسموعي الكلمة في بلادهم، من أصحاب الأتباع والأشياع، يؤيد أو يتابع على عقد هؤلاء الجمع المجاهيل في محلة بالعراق، على بيعة إمام؟ بل قد عارضها أكابر من هم من مسموعي الكلمة بالفعل من علماء أهل السنة كما هو معروف. ودع عنك إشكالية أنّ البغدادي نفسه شق عصا الطاعة على أمرائه ابتداءً، فبطلت بيعته وكلّ بيعة أخذها بعد ذلك، إذ ما بُني على باطل فهو باطل.
ثم، إن هؤلاء قد زعموا أن بيعة أميرهم ليست بيعة عامة لإمامة، لكنهم راحوا يقاتلون غيرهم عليها، ويرونهم بغاة، بل مرتدين لما قرروا أنهم يرتكبون ما يرونه أنه من المكفرات لديهم! فجمعوا بين البغي في طلب البيعة لمن لم تثبت له بيعة، والتكفير والحرورية بقتل المسلمين على شبهات وفتاوى قدّروها ثم عملوا بها. ناهيك عن ذلك التنظيم الوهمي الذي أطلقوا عليه "دولة" دون أي مقوم من مقاماتها.
تكملة الإشكاليات:5
7 شعبان 1435 – 5 يونيو 2014
(5)
انتهينا في المقال السابق إلى أنّ هناك إشكاليات قاتلة في البناء الفكري والشرعي لدي الجماعات الحرورية في العراق والشام، وهي تتعلق بالبيعة وبأهل الحلّ والعقد، أو "المُمَكِّنُون"، الذين يُمَكَّنون لأمام أو أمير.
وما ذكرته آنفا، أن أهل حلّ وعقد، في محلة معينة، يمكن أن يعقدوا بيعة خاصة، لحرب أو جهاد، في تلك المحلة بذاتها، والتي لهم فيها أو على أهلها، كلاماً مسموعاً. أما من وراء ذلك، فهو تعدٍ على حدود الله، وتسوّرٍ على حقوق الآخرين، لا ترضي به شريعة ولا يقبله عرف، ولا ينطبق في واقع. وهذا هو ما حدث في بيعة البغدادي، الخاصة بالحرب، والتي أقرها له أمراء الجهاد في خراسان، بشرطها، فإذا به يحوّلها إلى بيعة عامة، دون أن يُسميها بذلك، ويستخدم اسم "الدولة"، الذي لا يصاحب إلا بيعة عامة، بل ويمتد بها إلى الشام، تأكيداً على حقيقة ما يراه وشيعته، من إنها بيعة عامة، دون أن يسمونها بذلك لعلمهم أن لن يطير لهم بها جناح!
فالإشكالية هنا، هي:
- اعتقاد أن جمع من المجاهيل على المستوى الإسلامي، وإن كانوا معروفين محلياً لأهل محلتهم، يمكن أن يكونوا أهل حلّ وعقد بالنسبة لجموع المسلمين في أي مكان آخر. وهو ضد طبائع الناس، ومعاكس لفائدة أهل العقد ابتداءً، إذ إن قد شُرِعَ الأخذ برأيهم، لحقيقة إمكانهم السيطرة على كلّ من يطلب منهم أميرهم البيعة، لا مجرد أنهم "أهل حل وعقد" صورياً. وهو التصور المريض الذي نشأت عنه هذه الحرب بين المسلمين.
- تحويل بيعة هؤلاء النفر إلى بيعة عامة على الحقيقة، تجب التوبة على من لا يأخذ بها، ثم مدّ أثرها إلى الشام، حيث لا قدر لهؤلاء النفر ولا سمع ولا طاعة.
المُمَكَّن له: وهو الأمير أو الإمام
والحديث عن الإمام حديث ذو شجون. فقد أصبح "الإمام" عند أهل السنة اليوم، أقرب إلى أسطورة "الإمام الغائب" عند الشيعة. فالسنة يؤمنون بوجوب نصب إمامٍ، وهو صحيح، لتنتظم به أمور الدين والدنيا، كما عبر عن ذلك فقهاؤنا القدماء. كما أنه مطلوب عقلاً وعرفاً. فإن الجماعات الإنسانية عامة لا تحيا إلا بزعامة، تأخذ بزمام الأمور، فتقيم المعوج، وتصلح الفاسد، حسب ما تصطلح عليه تلك الجماعة من سياسات وتصورات ومبادئ، وضعية أو شرعية.
لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم ولا سُراة إذا جُهَّالهم سادوا
لكنّ أمر تنصيب إمام للمسلمين اليوم، بات أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد. بل تواجهه إشكاليات لا حصر لها، عملياً وواقعياً. وما ذلك لعدم وجود من تتحقق فيه الشروط الشرعية التي عدّها الفقهاء القدامى، بل لعدم وجود الشروط التي يمكن فيها وبها تعيين هذا الإمام، وتنصيبه واقعاً لا وهماً ولا خيالاً، وانتفاء الموانع التي تمنع من ذلك، وهي أكثر من أن تُحصى.
فإنه قبل أن يُنصّب إمام لإمامة، ونعنى بها الإمامة العظمي، التي تعم كافة أقطار الإسلام، وتُلزم بسطوتها كافة المسلمين، يجب أن يكون هناك مسلمون يلتزمون بها، ومكانٌ محصّنٌ تقع فيه. وهم، إن واصلنا الحديث عن مكونات "التمكين"، المُمَكّن فيه، وهي الأرض التي يُمَكّن للإمام عليها، دون منازعة. والمُمَكِّنون وهم "أهل الحل والعقد" من بين جموع المسلمين الراضين بهم، ومن ثم، بما يقررونه. وهؤلاء والمُمَكِّنون يجب أن يكون لهم السطوة الشرعية على من يُطلب منهم البيعة لذاك الإمام الذي اختاروه. أمّا أن يختار جمعٌ من الناس، يعتقدون، أو يعتقد من اختلرهم من حملة السلاح، أنهم أهل حلّ وعقد، في محلة، فينصبون أحداً، ثم يطلبون من كافة المسلمين القبول به، فهذا استدعاء للفتنة، بل هي الفتنة بعينها.
وقد رأينا ما يمكن أن يحدث حين يستبدل الخارجون عن منهج أهل السنة جمعاً لا هنا ولا هنالك بأهل الحلّ والعقد في تصورهم الصحيح المؤدى لجمع الشمل لا لتفرقته،. ثم كيف إنّهم خرجوا على مشايخهم ومعلميهم، الذين هم أصلح ما يكونوا اتصافاً بأهل الحلّ والعقد، كالمقدسي وأبي قتادة والسباعي والعلوان والحدوشي وغيرهم كثير من أهل الفضل في بلاد المسلمين، فاختاروا لأنفسهم، وأهل حلهم وعقدهم طلبة علم، أو أقل من ذلك، كالعدناني والبنعلي، ومن ليس لهم في عالم الشريعة ناقة ولا جمل، إلا التتلمذ على أيدى هؤلاء الأفاضل، ولا قيمة لهم، احترما وتبجيلاً إلا بين حاملي السلاح من جماعتهم ثم عدد من الناس لا يعلمه بحالهم إلا الله، في بلدة من بلاد العراق، فإذا، بقدرة قادرٍ، هم أهل الحلّ والعقد الذي تسرى كلمتهم على مسلمي الدنيا، ويُقتل من يخالف اختيارهم!
وقد ذكرنا أنّ كافة الممالك والأراضي التي يعيش عليها "مسلمون" اليوم، ليس فيها تمكين، لا لإمام ولا لإسلام. بل المسلمون[17] فيها عبيد خاضعون لأحكامٍ لا يرضونها لا يومنون بها، بل يسجنون ويقتلون ويعذبون إن طالبوا بتمكينها. ثم إن كافة المسلمين، الذين نجوا بعقيدتهم من كفر العلمانية، أو الإلحاد، هم شتات في البلاد. والعلماء الذين يثقون بهم، ويمكن أن يكون لهم السطوة الشرعية على غالبهم، هم إما في السجون أو مكممي الأفواه في بلادهم، أو هاربون إلى الغرب. وهو موقف يستدعى تطويراً لمواجهة هذه المسألة، نتعرض له في القسم الثالث إن شاء الله "الإطروحات".
أمّا إمارة الجهاد، فهذا أمرٌ قد سار عليه الناس منذ نشأة الحركة الجهادية في أنحاء الدنيا، لا غضاضة فيه، بل ثابت بالسنة والقياس. ويجب فيه مراعاة التسلسل التنظيميّ، حتى لا ترتبك الأمور. كما حدث حين نزع البعذاديّ يداً من طاعة للشيخ الفاضل أيمن الظواهري.
وتبرز من الشروط السبعة التي ذكرها العلماء، أبدع في تحقيقها الجويني، حيث قال، متحدثاً عن صفات الاستقلال المكتسبة ولواحقها "توقد الرأي في عظائم الأمور، والنظر في مغبات العواقب، وهذه الصفة ينتجها نحيزة العقل ويهذبها التدريب في طرق التجارب، والغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي، واستتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إراداتهم، واختلاف اخلاقهم ومآربهم وحالاتهم، فإن معزم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء، فإذا لك يكن الناس مجموعين على رأي واحد لم ينتظم تدبير، ولم سيتتب من إيالة الملك قليل ولا كثير، ولاصطلمت الحوزة واستؤصلت البيضة"[18].
وهذا النص درة من درر الجويني في هذا الأمر. فإنه بلا عقل للإمام المختار، يؤدى به إلى جمع الشمل وشتات الآراء المختلفة، التي إن لم تجتمع قامت الحرب، وفقدت الإمامة غرضها، فإن الإمامة ذاتها لا معنى لها على الأرض، إلا أن تكون فرقة بين الفرق المتناحرة، لا أكثر، وهو ما رأيناه في بيعة أبي بكرٍ الصديق رضى الله عنه. إذ توالت البيعات عليه من كلّ مكانٍ، بمجرد أن سلمّ له عمر رضى الله عنه صفقة يده، دون مغالبة. فإن تحجج أحدٌ بفعل معاوية رضى الله عنه في عدم التسليم لعليّ، قلنا، هيهات، هذا ليس بناقض على الإطلاق، إذ مغالبة معاوية لم تكن عن رفضٍ لعليّ رضى الله عنه بذاته، بل قد سلّم له من حيث الكفاية والدراية والاستحقاق، لكنها كانت أولويات بالنسبة اليه، يجب أن تراعى قبل استقرار البيعة، وهي حدّ قتلة عثمان رضى الله عنه. والخروج عن رأي إمام اجتمعت عليه غالب فئات المسلمين، في أمرٍ اجتهاديّ، فيه بغي عليه.
والإشكالية هنا، في الفكر الحروري الحديث، هو أنهم يريدون أن يثبتوا "دولة"، وإمام أو أمير أو رئيس لها، سمه ما شئت، دون المبايعين لها، أو المُمَكِّنِين منها، بل ودون الأرض التي يُمَكّن عليها. "فالدولة"، ومن ثمّ الإمام أو الأمير أو الرئيس، يأتي أولاً، ولو بشكليات تشبه الشرعية صورة، ولا توافقها مقصداً ولا حقيقة، بل تناقضها على ظول الخط، من حيث صارت يداً للأعداء يقتلون المسلمين المخالفين لهم، بدلاً من قتل النصيرية، وهذا هو عين الضلال، ولب الفساد والإفساد. فهم، باختصار يجعلون السبق للإسم قبل تحقق الفعالية على الأرض. ومن كان هذا منتهى عقله وآخر دربته، فكيف بالله عليك يحقق "الغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي، واستتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إراداتهم، واختلاف اخلاقهم ومآربهم وحالاتهم"!
هذا الخلل العميق في فهم منظومة الإمامة، وعلاقتها بقيام "دولة" هو من أشدّ الأمور اضطراباً في الفكر الجهادي عامة والحروري خاصة.
يتبع إن شاء الله
تكملة الاشكاليات 6: قيام الدولة الإسلامية في مواجهة الخارج:
11 يونيو 2014 – 13 شعبان 1435
(6)
وقفنا في المقال السابق على إشكالية توفر أهل الحل والعقد "المُمَكِّنون" واختيار "الإمام" في "الدولة الإسلامية"، من وجهة نظر التمكين. وخلاصة القول فيها أنه يجب ان يكون أهل الحل والعقد ممن يحصل باختيارهم الوئام والاتفاق، لا الخلاف والقتال، وهي ذات الصفة التي يجب توفرها في الإمام المختار كذلك، عدا غيرها مما نراه أقل أهمية منها خاصة في عصرنا هذا. إذ إن "الإمامة" قصدها جمع الشمل والكلمة، لمواجهة العدو، لا لمواجهة بين المسلمين بعضهم البعض، فإن لم تتوفر أدت النتيجة إلى فوات القصد، وهو عكس مقصود الشارع.
"الدولة الإسلامية" في مواجهة الخارج:
وهذه إشكالية كبيرة في الفكر الجهادي عامة، والحروري خاصة. فإن تحرير مفهوم "الولاء" وعلاقته بالاتفاقات الدولية، ومدى توافق محدثاته مع الشريعة، سيكون محتاجاً إلى إجتهاد عظيم، وفهم تام لمقاصد الشرع، ولمدلولات أحداث السيرة ومفاهيم الحديث الشريف. كذلك يحتاج إلى دراية كاملة بالخريطة السياسية، ثوابتها ومتغيراتها، والقدرة على التأثير فيها. فإن البندقية لا تقدم حلاً في كلّ وقت ولكل مشكلة. السلاح يشكِّل بداية الحلِّ ونهايته. أما في خضم الحياة، فلا دور له إلا إرهاب العدو المتربص، أو دفع الصائل المعتدى.
إشكالية العوائق:
العوائق السياسية التي تواجه قيام "دولة إسلامية"، للناظر من باب الأسباب الدنيوية البحتة، لا يكاد يحصرها العدّ. فقد تكالبت القوى العالمية، على اختلاف مذاهبها وأديانها وتوجهاتها، على أن لا تقوم للإسلام دولة مركزية، تخلف الخلافة العثمانية، سواءّ كانت دولة أو خلافة، سمها ما شئت. اجتمع عل ذلك الغرب الصليبي الصهيوني متمثلاً في أمريكا وأوروبا، والشرق الشيوعيّ، متمثلاً في روسيا والصين، والشعوب اللادينية التي تعبد الأحجار والأبقار، في الهند وجنوب شرق آسيا. لم يختلفوا على هذا القدر، ثم اختلفوا على كلّ شئ من ورائه.
بل، قد اتفق حكام العرب، من العلمانيين المرتدين، بلا استثناء، سواء كانوا رؤساء جمهوريات أو تياجان ملكيات، على ألا تقوم مثل هذه الدولة، بأيّ حالٍ من الأحوال، إذ في المركزية فقدان لكلّ منهم ما يمتمتع به من ميّزات.
ومن ثم، فإن فكرة قيام "دولة إسلامية سنية على النهج النبويّ" هي فكرة أسهل ما تكون تمنياً، وأصعب ما تكون تحقيقاً على الأرض.
وقد رأينا مِصداق ذلك في مصر، حيث تحركت قوى الخليج العميلة، لتضرب الإخوان، على ما في دولتهم التي صمدت عاماً يتيماً واحداً، من كلّ بلاء واستسلام، يجعلها أسوأ مثال لدولة سنية. لكن هذا لم يشفع لها عند الشرق، ولا الغرب، ولا العرب!
كما رأينا كيف استطاعت تلك القوى الصهيو-صليبية، بالتعاون مع عملاء الخليج، أن يحوّلوا ما كان صحوة للشعوب ضد قاهريها، إلى حكومات علمانية في تونس وليبيا واليمن، ومصر علي رأسهم بطبيعة الحال.
ثم، لا يجب أن ننسى في معادلة "الدولة الإسلامية" أنّ الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بقوة ضاربة هائلة في غرب جزيرة العرب، وفي قطر والبحرين والكويت. وهي قوى مستعدة للتدخل إن هُدّدت مصالحها النفطية بأي شكلٍ، أو بأي كيان. فأمريكا لا يهمّها من يقود، وبأي عقيدة يقود، وأي شعب يقتل، رافضة أو سنية أو حرورية، كلهم سواء، طالما أن مصادر النفط وقواعدها العسكرية محفوظة. هؤلاء لا يتحركون بوازع دينيّ، بل بوازع اقتصاديّ تحميه القوة، لا غير.
ثم، العامل الأهم في هذه المعادلة، هو القوة الصهيونية، النووية، التي تقبع في قلب الرقعة المسلمة، تهددها كلها، إن تعرضت لأي تهديد كان. بل قد تحالفت معها بقية عملاء العرب، كفاحاً، كمصر والخليج بعامة، تحالفاً ذليلاً، حين شعروا بالخوف من القوى الصفوية المتعاظمة، ومن الخلاف مع تركيا، ومن الخطر الجهاديّ القادم من العراق والشام، والذي قد ينتج عنه "دولة" لا يعلمون ما يفعوا إزاءها!
كذلك، فإننا رأينا أنّ "الحصار" الاقتصاديّ عامل مؤثرٌ في الدول التي يقف منها العالم كله موقف عداءٍ، مثلما حدث مع الراق قبلاً، مع كوريا الشمالية ومع غزة الحبيبة اليوم. ومع علنا بأن الحصار لا يهزم الأمم، ولا يكسر الهمم، إلا إنه مؤثر هام قوي يعين على إضعاف الكيانات القائمة إضعافا شديداً، خاصة إن كانت مخترقة من الداخل بالروافض، أو كانت حكوماتها غير مقبولة قبولاً واسعاً كما لو تحكم الحرورية في العراق.
أما العوائق العقدية، فتتمثل في وجود ذلك الانشقاق الأخير، الذي ظهر في صفوف المجاهدين، بظهور تنظيم البغداديّ الحروريّ، في مقابل غالب الجبهات الأخرى التي انقسمت إلى سنة عامة، كجبهة النصرة وعدد من الكتئب المستقلة، وإرجائية إخوانية ظهرت في الجبهة الإسلامية. هذا الاختلاف، هو ضربة قوية لإمكانية قيام دولة سنية موعودة. إذ إن الحرورية، لو قامت لهم دولة، ولا نظنها قائمة، فلن تكون تلك الدولة التي بشؤ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هي التي تقيم الإسلام على نهج النبوة. وإن ظفرت الجبهة الإسلامية بهذا النصيب، فإنها لن تكون إلا تابعاً، في غالب أمرها للخليج، ماديا ومعنوياً. أما عن مجاهدي السنة، وهم قليل، فهم مُحاصرون بين كافة الجبهات "الجهادية" الأخرى، منهم من يكفّرها ويقاتلها كالحرورية، ومنهم من يحرجها باتفاقيات ومواثيق تجعل التقارب والتعاون بينهم مستحيلاً دون خيانة الله ورسوله.
و"الدولة الإسلامية"، حين قيامها، ستكون مطالبة بالتعامل مع جوار. وهذا الجوار، في أيامنا هذه عَفنٌ خرب، لا دين له. لكنه مرتبط بقوى عالمية لن تسمح بأن تتحطم مصالحها كلها في المنطقة، وأن تخسر كلّ رصيدها، خاصة والكيان الصهيونيّ في وسط هذه المعمعة. وهو كيانٌ متسلحٌ بقوى نووية، وأحدث أنواع الأسلحة في العالم، بل ويقوم بتصنيعها وتطويرها بنفسه على أرض فلسطين المحتلة.
لكن، لغرض هذا الجزء من الدراسة الذي يتعامل مع الإشكاليات،علينا أن نفترض إمكانية قيام مثل تلك الدولة، حتى نكمل دراستنا، فننظر في الأطروحات التي يمكن أن يتبناها العمل الإسلامي، الجهاديّ أو السياسيّ، ليصل إلى غرض قيام تلك الدولة، إن شاء الله.
يتبع إن شاء الله
الأطروحات 7
18 يونيو 2014 – 20 شعبان 1435
(7)
الأطروحات
إنشاء الدولة في النظر الإخواني
فلنقرر أولاً وقبل كل شئ أنّ التوجه الإخوانيّ السلمي الديموقراطي، لن يُنشأ دولة إسلامية، مهما توهّم أتباعه، ودع عنك التوجه السروريّ، فلهؤلاء نظرة لدينهم لا تطابق لها مع معنى التوحيد أصلاً. الأطروحة الإخوانية فاشلة بكلّ معايير العقل والشرع والواقع. فالشرع يعاكس المبدأ الديموقراطيّ على طول الخط. إذ الديموقراطية هي تقنين ما تراه الغالبية الشعبية صالحاً، وتجريم ما تراه فاسداً. وهذا النظر لا محل له في دين الإسلام البتة. إذ الصالح هو ما أحله الله وأوجبه، والفاسد هو ما حرمه الله في شرعه، دون استثناء. ثم إن العقل يشهد أنّ الغالبية الشعبية عادة هي من العوام الجهلة، فبأي منطق عقليّ يوكل لها تحديد الصالح والفاسد. فإن قيل: بل يوكل إلى ممثليها، قلنا: هي عين المسألة، كيف تحدد ممثليها ممن يوثق فيهم ابتداءً، بغير معايير الدين والخلق؟ ثم إن العادة والواقع قد استقر على عدم جدوى هذا التوجه، لمضادته لمصالح الدول الكبرى، وأذنابهم من رؤساء وملوك وأمراء العرب. ويكفي تجربة الجزائر والسودان ومصر وليبيا وتونس واليمن والكويت في إثبات أن حكومة إسلامية لن تأتي بالحل الديموقراطيّ، كما لن يتمكن مصاب بسرطان الرئة من معالجة دائه بالإكثار من التدخين!
إذن يجب أن يحذف هذا الخيار من برنامج المخلصين المصلحين الأتقياء، ويُترك للعابثين المُخلطين العملاء.
أطروحات إنشاء الدولة في النظر السنيّ
بعد هذا البيان في مفهوم الدولة، وبعض ما يحيط به من متعلقات تختص بالوضع الحاليّ، فسنعاود النظر في الإشكاليات المعروضة، ونعقب عليها، ثم نحاول أن نتصور طريقاً لإقامة الدولة المَنشودة.
حتى نلتزم الوضح في حديثنا، فإننا نرى أن لا طريق إقامة دولة إسلامية، تحكم بالشريعة، في هذا الواقع الذي تحدثنا عنه، إلا عن الطريق الجهادي، الذي يستهدف إزالة حكم، وإحلال حكم بديل. هي عملية هدم وبناء كامل. هدم لنظام قائم، من جذوره، بكل مؤسساته، وتصوراته، وبناء نظامٍ بديلٍ يقوم على التصو الإسلاميّ، ومن ثم تقوم عليه كلّ مؤسساته.
هذا هو الهدف المنشود. لكن الطريق اليه، لا يتم، ولن يتم، فيما نرى، في قفزة واحدة، مما نحن فه اليوم، إلى هذا الواقع الذي نحلمبه. ومن يتصور هذا، ويعمل عليه، هو إما واهم أو مغفل، أو كلاهما، كما هو الال فيما تفعل اليوم جماعة الحرورية البغدادية. وسنتوسع في هذا الصدد فيما يأتي.
ناقشنا فيما سبق من مقالات، موضوع التمكين ومكوناته. وقررنا أنّ
الوضع اليوم يختلف كلية عن المناظ الذي تحدثت عنه كتب السياسة الشرعية، ونظّر له علماء السنة القماء. إذ نحن ننطلق من أرض عاش عليها الإسلام أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان، كحاكم متمَكن، وإن تغيرت أشكال الدول وأسمائها. ولا يزال تعيش على أرضها بقايا "أمة"، آمنت يوما به الدين، ومكنته، ورَضت به، وأقامت حياتها على أساسه تصوّراً وتطبيقاً.
مفهوم التمكين هنا يأتي بمعنى خاص، وهو "استعادة" السيطرة على أزمة الأمور، بطريق القوة، في "دولة" قائمة بالفعل، أو في جزء متحيزٍ من أرضها، يمكن "لأهلها" حمايته والدفاع عنه.
ونقول "استعادة السيطرة" إذ إن هذه الأرض هي أرض مسلمة ابتداءً، وهو معنى لا يجب أن يغيب عن أذهان "الأمة" أو أولئك المقاتلين للحصول على هذه السيطرة.
ونقول "بطريق القوة"، إذ لا طريق إلا القوة المسلحة إزالة حكم الطغاة الطواغيت وإزاحتهم عن هروشهم، بهدم قوتهم العسكرية والأمنية، التي يتقوون بها.
ونقول في "دولة قائمة بالفعل، أو جزء مُتحيّز منه"، إذ هي عملية استعادة لا إنشاء من عدم، بل هي تحرير لأرض مغتصبة. والتحيّز هنا ضرورة واقعية على الأرض، إذ إن انتشار المقاتلين على مسافات متباعدة، لا يعنى تمكيناً حقيقياً، ولا يتوافق مع مفهوم الدولة، لا شرعاً ولا وضعاً.
ونقول "يمكن "لأهلها" حمايته والدفاع عنه" إذ إن الأصل هو أنّ أهل المحلة قابلون للمجاهدين، مرحّبون بهم، بلا ضغط أو تهديد. وذلك من حيث أن عملية التحرير والسيطرة ليست كما حدث في الفتوحات الأولى، للأسباب التي قدّمنا. فإن لم يكن أهل المحلة قابلين، لم يكن هناك تمكين، بل هو شكلٌ آخر من أشكال الاحتلال، يؤدى إلى تخالفٍ وتقاتل.
"الأمة" و "الحاضنات الشعبية"
ولا نرى ذلك يتم إلا من خلال "الحاضنة الشعبية المُسلمة"، أو ذلك الجزء من "الأمة السّنية" التي تعيش على تلك الأرض.
ولابد هنا أن نبيّن مفهوم "الأمة" عند أصحاب الفكر الحروريّ. فهؤلاء يرون أنّ الأمة هي كلّ من ناصرهم ووافقهم فكراً وعملاً، وأنّ قلبها هو المقاتلين من حاملي السلاح. وهونفس المنطق العسكري الذي تتعامل به الديكتاتوريات على مر التاريخ، كما كان هتلر وموسوليني وستالين. القوة العسكرية هي الأمة، لا غيرها. ومن وافقهم وخضع لهم خضوع الذليل الموافق، فهو "مقبول" لديهم، مجرد مقبول. ومن خالفهم فكراً أو عملاً، فهو مرتد يستحق القتل على الفور دون رحمة. ولا يغرنك أقوالهم، فهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما ينكرون. أصحاب هذا الفكر لا يعترفون بأمة سبقت وجودهم، أو خرجت على مراسيمهم. ومن ثمّ، هاجموا الحاضنة الشعبية، وهو حق أريد به باطل. فكما بيّنا من قبل، أنه إن أريد بالحاضنة الشعبية ذلك الخليط من الكفار والمرتدين العلمانيين والمسلمين، كما تراها الإخوان، فهي حاضنة غير مبروكة، لن تنتج إلا خداجاً، وهو ما رفضناه ردناه سابقاً. وإن أريد بها المسلمون ممن لا يوال يحب الله ورسوله، مطيعهم وعاصيهم، فهي التي تقوم عليها "الأمة"، كما كان "أهل المدينة" من الأنصار هم "الحاضنة الشعبية" لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمفهوم "الأمة" مغلق محدود بالموافق في الفكر الحروريّ. وهو منفتح متنوع، محكوم بالكتاب والسنة وفهم القرون الثلاثة الأولى الفضلى.
ولا نرى هذا التنافر بين المنهجين إلا نابعا من الفهم العقديّ الأصلي لموضوع الإيمان. فالحرورية يرون أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل هو عندهم ثابت، بينما أهل السنة يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وأن المسلم تقع منه الطاعة كما تقع منه المعصية بدرجاتها دون الكفر بيقين. ونحن نعلم أنّ حرورية هذا الزمن لا يصرحون بهذا القول، بل يردونه ما استطاعوا. لكن القول في هذا ليس اليهم، إذ لا يقر صاحب بدعة ببدعته، وهو يعلم تفاصيلها، ويعلم أن مخالفيه يعلمون تفاصيلها. إنما الحكم هنا يرجع إلى تصرفاتهم التي تحكم على عقيدتهم وفهمهم للإيمان وحدّه. فهذا النظر إلى الإيمان هو الذي يبرر تكفيرهم لمن خالفهم، وإلباسهم أفعال معصية، لباس الكفر، والقتل عليه.
ولا يخفي ما في هذا التوجه من نفاق ظاهر. إذ يمكن للموافق المصاحب لهم أن يرتكب معاصٍ، أو حتى كفراً مما يرونه كذلك، فيغفر له، أو يعاقب عليه كما في السنة، لكن نفس الفعل من المخالف المفارق يُعتبر كفراً لا معصية فيه، يُقتل عليه. وانظر إن شئت كيف قتلوا أبو سعيد الحَضرمي لأخذه بيعاتٍ من بعض عوام أتباع الجيش الحرّ "المرتدين"، بينما هم أنفسهم قبلوا بيعات بعثيين من العسكريين بين صفوفهم الأولى، وأتباع للأركان في بموحسن مؤخراً، غير تعاونهم مع النصيرية في حصار وقتل مسلمي الدير!
الأمة إذن هي مفهوم هلاميّ في الفكر الحروري، يتغير حسب موقع أفرادها وجماعاتها من تنظيمهم بالذات، لكنه واضح جليّ في المفهوم السنيّ. وهو الذي أشار اليه الشيخ المجاهد أسامة بن لادن من قبل، حين فرح بالربيع العربيّ، واقترح إقامة مجلس شورى لدعمهم وتوجيههم، وما أقره الشيخ المجاهد أيمن الظواهريّ في كلّ قوله، ضداً لما قالته الخوارج البغدادية.
فالساعين لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة، يجب أن يلتزموا بهذا المفهوم للأمة، وأن يتبنوا الحاضنة الشعبية في صراعها للوصول إلى الوجود، ثم البقاء.
وقد تحدثنا عن "حاضنات شعبية" بصيغة الجمع، من حيث إنّ ذلك يتمشى مع مفهومنا للتمكين، وهو أنه استعادة السيطرة في أماكن متعددة من أرض الإسلام. ومن هنا، فإن "الدولة" قد تنشأ في أماكن متعددة، مستخدمة لحاضنتها الشعبية الخاصة. وهو أمرٌ طبيعي بالنسبة لتعدد العادات والخصائص والطبائع، ومن ثم طرق التعامل والتعاون والمقاومة. ومن هنا كذلك، يفترق مفهوم "الدولة" أو "الإمارة" عن مفهوم "الخلافة".
يتبع إن شاء الله.
تكملة الأطروحات 8
19 يونيو 2014 – 21 شعبان 1435
(8)
تحدثنا في مقالنا السابق عن "حاضنات شعبية" بصيغة الجمع، من حيث إنّ ذلك يتمشى مع مفهومنا للتمكين، من حيث إنه استعادة السيطرة في أماكن متعددة من أرض الإسلام. ومن هنا، فإن "الدولة" قد تنشأ في أماكن متعددة، مستخدمة لحاضنتها الشعبية الخاصة. وهو أمرٌ طبيعي بالنسبة لتعدد العادات والخصائص والطبائع، ومن ثم طرق التعامل والتعاون والمقاومة. ومن هنا كذلك، يفترق مفهوم "الدولة" أو "الإمارة" عن مفهوم "الخلافة".
فمفهوم "الدولة" أو "الإمارة" هو الأليق بأن يسعى له الساعون اليوم، للعوائق المُتراكبة التي تحدثنا عنها، والتي لن يتمكن فريق أنّ يتخطاها، إلا من عاش في وهم أنه يعمل في فراغٍ سياسيّ، بلا مراقب متربص أو عدو مترصد. ولهذا فإن مجاهدي أفغانستان كانوا من الحَصافة والذكاء أن لم يسعوا لتسمية إمارتهم أو دولتهم خلافة، بل لم يغيّروا اسمها الأصلي "أفغانستان". هذا من قبيل تحييد المراقب المتربص والعدو المترصد. ومع ذلك لم تتركهم القوة الغربية الصليبية إلا خمس سنوات، مُتمكنين حقاً في بلادهم. وهو درس لا نعرف كيف يغيب عمن يتحدث اليوم عن خلافة إسلامية، بل عن دولة إسلامية تتجاوز حدود المناطق التي لا تزال تجاهد فيها دون تمكّنٍ بعد.
ومن ثمّ، فإننا نرى أنّ انتشار "الوعي الإسلامي" وتوسيع رقعة "الحاضنة الشعبية"، هو من أهم عوامل إقامة "الدولة أو "الإمارة". ويشبه تصورنا هذا في إقامة "الدولة" بعملية "تفتح الزهرة" أكثر من "تفجّر القنبلة"، وإن كانت العمليتان تنتجان أثراً واحدا، لكن الأولى تدوم وتتنتج حياة وتترعرع، والثانية تؤذى وتقتل وينتهى أثرها.
وهذا لا يعنى أن "الجهاد المسلح" هو وسيلة التغيير الوحيدة، كما قررناه من قبل، بل يعنى أنّ هناك فرقٌ بين التعامل مع الحاضنة الشعبية، وهو مَثَل تفتح الورد، وبين التعامل مع العدو الصائل، وهو مَثَل تفجّر القنبلة. والأول يراد له الدوام وإقامة الحياة، والثاني محدود بتحقيق الهدف وهو هدم النظام، لا أكثر.
التمكين:
لابد أن يكون واضحاً أنّ التمكين الذي تقوم عليه "دولة" أو "إمارة" في هذا العصر، بل وفي كل ّعصر، يرتبط بوجود "حدود" ثابتة، تحت السيطرة الدائمة، وعلى وجود عاصمة للإمارة، تدير شؤون الحكومة المركزية، وأن يكون هناك "أمير" لهذه الإمارة معلوم ظاهرٌ بين الناس.
والشكل الذي تدير به الجماعات والتنظيمات الإسلامية جهادها اليوم، لا يمت لشكل "الإمارة" أو "الدولة" بصلة، وإن ادّعى بعضها التسمية. فالأمر ليس أمر تسميات، وإلا كان عبثاً لا معنى له، لكنه أمر حقائق وترتيبات على الأرض، يكون فيها تمكن حقيقي، لا عسكريّ محض، لهذه الإمارة أو الدولة الناشئة.
وسبب هذا، هو أنّ المقصود بهذه "الإمارة" أو "الدولة" هو إدارة شؤون الرعية في تلك البقعة، بما يضمن سلاسة حياتهم، وأمنهم وحمايتهم من العدو. ولو فرضنا أنّ جماعة، أو تجمعاً، استولى على أرضٍ ما، مهما اتسعت، وتناثرت فيها قواته العسكرية، وما زال يحارب عدواً يعيش بين ظهرانيه، ولم تتمتع رعاياها بالأمن أو الاستقرار، ولم يظهر لها أميرها، ولم تعرف تصاريف ماليتها وإدارتها، ما كانت هذه الجماعة أو التجمع دولة أو إمارة بعد، بل ظلت "مشروع دولة أو إمارة"، وظلت تلك الجماعة أو التجمع تحارب في سبيل ترسيخ الوضع الحقيقي المطلوب للدولة أو الإمارة.
واقع الحصار:
الذي يجب أن يفهمه الناظر في مسألة قيام "دولة" الإسلام، هو ذلك الحصار الشامل التي تفرضه قوى العلمانية والصهيو-صليبية، بدعم حكام العرب في المنظقة بلا استثناء، على أية محاولة لقيام "دولة" إسلامية في المنطقة، ويقر لها قرار، وتستمر في أداء وظيفتها لحماية رعيتها. وهذا لا يعنى استحالة هذا الأمر، بل يعنى أنه يجب أن يكون هذا التصور قائماً في أذهان المخططين لهذه الدولة، وواضعي تصوراتها وأهدافها القريبة والبعيدة.
ورفع هذا الحصار، ولو جزئياً، يجب أن يكون من التصورات التي تقوم عليها الجهود الساعية لإقامة مثل هذه الدولة. ولا يكون ذلك بمخالفة الشرع الحنيف، مثلما يفعل البرزاني الكردي اليوم من بيع نفطه للكيان الصهيونيّ، فهذا فشل وضعيّ وشرعيّ، إذ فيه تقوية للعدو الذي يريد هجم كيانك، كرديا كنت أو غير كُرديّ، طالما تنتسب لإسلام ما، بصيغة ما.
وصيغة الاكتفاء الذاتيّ هي الصيغة الأقرب في هذا الصدد، إلا إننا لا نزال نصارع فطرة الاكتفاء الذاتيّ في التسليح. فاهو ل أسلحة الثقيلة والتكنولوجيا، لن يُسمح لها بالتسرب إلى هذا الكيان الوليد، إلا ما تسرب منها، بأي شكلٍ من الأشكال. وفرض الحصار البريّ أو البَحريّ أو الجويّ هو من الأسلحة التي يجب أن تحذرها الكيان الوليد، لشدة أثره الذي رأيناه على جيش صدامن والشعب العراقيّ عقب حرب الخليج الأولى.
أهل الحل والعقد:
فإن ترسخ وضع الدولة، وكان أهل تلك الأنحاء في حرية من أمرهم، جمع الناس أهل الحل والعقد فيهم، واتفقوا على أمير للدولة. وهذا الأمير لا علاقة له بأمير الجماعة أو التنظيم بالمرة. فهذه بيعة وتلك بيعة. ومن ثم، فإن فرَضَت تلك الجماعة المسلحة بيعتها وأميرها على أبناء "الأمة" في تلك الأرض المحررة، كانت بيعة غصبٍ، لا بيعة شرعية، وأصبحت تلك الجماعة غاصبة للسلطة، معادية للأمة ولرعاياها.
والمشكلة هنا هي أنّ الإسلام جاء لتحرير رقاب الناس من كلّ مغتصب، حتى من هم من أبناء جلدتهم، لحقّهم في المخالفة داخل إطار السنة. ونظام الحكم في الاسلام السنيّ يقوم على الشورى لا على الحكم الجبريّ، أو النظام الديكتاتوري، حتى لو تبنى الشريعة نظاماً، فالدكتاتورية أمرٌ لا يعرفه الإسلام ولا يقره، وإن ادّعى أصحابه توخى المصلحة، تماما كما لا يعرف الديموقراطية وإن ادّعى أصحابها نفس الدعوى. الإسلام نظامٌ ثالث لا يعرف ديكتاتورية ولا ديمقراطية. لا يعرف ديكتاتورية الحرورية، ولا ديموقراطية الإخوان. كلاهما ساقطٌ في النظر السنيّ. وهنا يأتي التوصيف الصحيح والوظيفة الحقيقية لأهل الحلّ والعقد.
ومن ثمّ، فإن أهل الحلّ والعقد، يجب أن يجتَمعوا، بعد مرحلة التمكن، وأن تكون كلمتهم هي الأعلى. وليس لأمير تنظيمٍ، قاتل في مراحل التمكن، قبل التمكين، وأسمى نفسه "أمير المؤمنين" أن يفرض نفسه على كافة رعايا "الدولة"ز فإن هذا لا يكون إلا نتيجة فهمٍ منحرفٍ ظاهريّ لقواعد الإمامة ودور الإمام ووظيفة أهل الحلّ والعقد. ومثل هذا التصور الظاهريّ، الجبريّ، الديكتاتوريّ، لن ينتج إلا صراعا مستمراً داخل "الأمة"، ولن يكون إلا أداة لقتل الأرواح المسلمة، بدلا من حمايتها، بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. وحتى إن ظهر أتباع هذا الفهم المُنحرف الظاهري الديكتاتوريّ الحروريّ، فإن هذا الكيان لن يكون ممثلاً "للدولة" التي تقوم على منهاج النبوة، وإن ظن أتباعها ذلك، بل سيكون ذلك محض تخرّص على السنة وعلى الإسلام. ويكون، في تلك الحالة، لا يزال الحكم الجبريّ الشامل، واقعٌ على "الأمة"، لكن مع تغيير المسميات دون الحقائق.
والصفتان الأهم في صفات أهل الحل والعقد، في هذه الحالة هما نفاذ الكلمة على العامة، مع العلم الشرعيّ. وبدون أيهما، لا يصح أن يُعتبر الفرد من أهل الحل والعقد. فبدون الأولة، لا تجتمع الكلمة، وبدون الثانية ينحرف النظر والتصور.
هل تقوم "الدولة" دون عصبية؟
ومفهوم العصبية الذي قرره بن خلدون هو مفهوم رائع حق كلّه، وإنما يتلبس بصفة مغايرة مع الزمن. فالعصبية القبلية، والعزوة العائلية التي قصدها في مقدمته، كانت هي السبب في قيام الدول الأولى في الإسلام، بعد عصر الراشدين. لكن، مع تطاول الأزمان، وتخالف العادات بين المتابعين للدين، في أنحاء الأرض، واستقرار الكثير من القبائل والعشائر، وظهور النعرات القومية التي حاول الغرب جعلها مكان النزعة المتسلطة في نوفس البشر من الولاء العصبيّ، وهو ظاهر فيما أقامة من الحزبية السياسية، وأو الدوريات الرياضية، كقنوات تفريغ تشغل الناس عن توجيه العصبية إلى أمر مالكي السلطة، فيزعزعها تدخلهم فيها.
يقول بن خلدون " في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق. وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم " ، وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله. اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لارب سواه."
وقد رأينا في مصر أنّ فقدان العصبية بين المعارضين، وتشتت أغراضهم بين علمانيّ وإخوانيّ وعاميّ لا وجهة له، قد أفشلت الحراك في 2011. ورغم أنّ الإخوان قد لجئوا إلى عصبية الجماعة، إلا إنهم لم يعززوها بما هو لازم لها من القوة، فلم تجدى عنهم شيئاً. بينما لجأ العسكر إلى العصبية العسكرية المتلائمة في غرضها، الحائزة على القوة، فتغلب، على باطله. يقول بن خلدون "في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح كما مر "ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية."
كما رأينا أن الحِراك في العراق، لم يثمر حقا إلا بعد تدخل قوى العشائر والقبائل في أوائل شعبان 1435، إلى جانب التنظيم البغدادي الحروريّ، مما أتاح هذا الاكتساح السريع للرافضة الأنجاس.
الأطروحات – الدولة والعصبية وأهل الحل العقد 9
22 يونيو 2014 – 24 شعبان 1435
(9)
ونعود قليلاً إلى ما سبق أن لمحنا اليه من معنى العصبية لتكتمل الصورة. "فالعصبية تجمع عنصرين، أولهما المُتَعَصّب له، والمُتَعَصِّبون. والأول، المُتَعَصّب له، قد يكون فرداً أو فكرة، والمُتَعَصِّبون هم من يقفون وراء الفرد أو الفكرة، بقوة قادرة على حمايته أو حمايتها من أعدائهما". وغالباً ما يكون الفرد المُتَعَصّب له حاملاً لفكرة، إذ يصعب أن يكون فرداً لذاته محل تعصبٍ دون سبب، فالملوك تقف خلفهم فكرة الولاء والانتماء والاحساس بالذات المتميزة عن الغير عند الرعية، ورءوس القبائل تقرب من هذه الفكرة في العصبية، والأنبياء يحملون الفكرة الدينية، التي ترتبط بخصم ارتباطاً عضوياً محكماً. وقد يكون الفكرة أبرز من الفرد كما في حالة الفاشية والنازية، التي استعمل فيها هتلر وموسليني "الفكرة" أحسن استخدامٍ لتوظيف العصبية. ولذلك، نرى أنّ الجامعة العسكرية لا يمكن أن تكوّن عصبية ناجحة مستمرة، دون فكرة من ورائها. وهذا ما يميز كلب الروم السيسي عن الهالك عبد الناصر، فالأخير هذا قد سخّر فكرة القومة العربية من ورائه، فاكتسب الشعبية الجارفة مدة خمسة عشر عاماً، حتى بعد هزيمته النكراء في 67 ظلّ المتعصبون له على ولائهم، من باب التصاقهم بالفكرة التي يمثلها في عقولهم. والأول الأنكد، ليس من ورائه إلا قبضة عسكرية تضرب بلا تعقل أو تفكير في مآلات، ومن ثمّ فإن حياتها دائما سترتبط بقوة هذه القبضة، ولن ترتبط بشخصه يوما إذ لا يحمل فكراً ولا وطنية تجمع من حوله العصبة اللازمة للبقاء. والعسكر كانوا، وسيظلوا على ولاء لمن يدفع لهم، لا لغيره.
تكملة: هل تقوم "الدولة" دون عصبية؟
وقد رأينا أنّ العصبية الدينية قد لعبت دورها ابتداءً في إقامة ممالك آل سعود وآل الحسين في الجزيرة العربية، حيث اعتمد الأولون على مرجعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى نالوا الملك وعززوه، ثم حولوها إلى عصبية قبلية عائلية، فصلوا فيها الدين عن السياسة واقعاً، وإن لم يعلنوا واضحة. كذلك مع آل الحسين في الحجاز أولاً ثم في الأردن ثانيا، بالنسب القرشيّ، ثم بالعصبية العشائرية بعدها.
وقد كان خطأ الإخوان الفادح هو أنهم ظنوا أنّ الدعوة الدينية كافية لإقامة الدولة دون العصبية المدعومة بالقوة، والتي تجسدت مصيبتها في قولتيهما "المشاركة لا المغالبة"، و"سلميتنا أقوى من الرصاص". والكلمتان قد آتتا أكلهما بالخيبة والخسران المبين، والسقوط المُزرى للجماعة ككل.
والدعوة الدينية هي عصب الدولة النبوية بلا شك، وقد يقوم دول وممالك بغيرها، كما نرى في الغرب النصرانيّ، إلا إننا نتحدث هنا، على صنف العرب خاصة، وإن اشترك في الكثير مع بقية البشر. وصدق عمر رضي الله عنه "لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا إبتغينا العزة بغيره أذلنا الله". وهذه خاصية للعرب على وجه الخصوص، تشهد لها القرون الأربعة عشرة الماضية على الصحة والدقة. فلن تقوم لنا قائمة إلا بهذا الدين، والعصبية تحت لوائه.
الفرق بين انتشار الإسلام قديما وحديثا
وفي هذا الصدد، فإنه يجب أن نثبت الفرق بين تطبيق مبدأ العصبية بشكلٍ مباشر، كما استخدمها ابن خلدون، بناء على ما استشف بعبقريته من أحداث قيام الإسلام ودوله حتى عصره، وبين ما نحن فيه اليوم، فالفرق واسع شاسع، في الوسائل، وإن كانت المقاصد لا زالت قائمة لا تتبدل.
لاشك أن العصبية الدينية في القرون الثلاثة[19] الفضلى لا يمكن أن يوجد لها مثيلٌ اليوم، من حيث قوتها ونقاء فهمها وحسن سيرة القائمين عليها. ودع عنك هنّاتٍ، جرت بين الصحابة، كلّ يسعى لصالح دين الإسلام والعدل كما يراه. وقد ظهر ذلك جلياً في آخر ما رميت به الأمة من حرورية التنظيم القائم على جزء من الدعوة الدينية في العراق والشام، وأقصد البغدادية. وقد رأينا كيف أنّ علياً رضى الله عنه قاتل الحرورية، كي تصفو صفوف المسلمين من خبث البدعة، خاصة إن تجمّعت في شكل تنظيم مسلح.
ثم الفارق الآخر، وهو التغير الساحق في وسائل الحرب وطرقها، وظهور التكنولوجيا الحديثة. وهذا أمرٌ لا يجب أن يتخطاه الباحث بسرعة، أو أن يستهين به. فإن شجاعة الشجعان، قد خسرت بعض موقعها العالى لحساب تلك الوسائل التي لا تحتاج لشجاعة ولا جسارة، بل إلى خسة ووضاعة، دائما تجدها متوفرة عند من يملكون تلك الوسائل الحديثة.
كذلك، ما أشرنا اليه آنفا، من ضعف ولاء الحاضنات الشعبية وتغير تصوراتها بشكل تحول في بعض الدول إلى كفر صريح بالله سبحانه، كما رأينا في مصر على الأخص. وقد رأينا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحرك من مكة إلى المدينة حين توفّرت الحاضنة الشعبية القوية المخلصة المسلمة في المدينة، ليكون بين أهلها في أمان ومنعة وعزة. ولم يكن للإسلام كيان ينتسب اليه أو عصبة يعتمد عليها قبلها.
هذه العوامل، كلها، يجب اعتبارها في وضع أيّ تصور عن قيام دولة للإسلام، ونعنى هنا دولة حقيقية لها مقومات السلطان والمنعة والعصبية، لا ذلك الكائن المسخ الحروري، الذي يريد أن يفرض نفسه بالقوة على ساحة، ليس له فيها كمال القوة والمنعة والسلطان. بل يتقاسمه معه قوات مجاهدة سنية، وعشائر تكاد تنكر وجوده بالكلية[20]، ويعمل على إزالتها عن طريق "قتل المصلحة"!
والنتيجة:
أما وقد وصلنا إلى توضيح هذه النقاط المتشابكة، فإننا نخلص إلى أنه لا بد من توفر العصبية الظاهرة، والقوة القاهرة، والحاضنة الشعبية القابلة القادرة، والسياسية الشرعية الواعية الصابرة، لقيام أي "دولة إسلامية". وبدون أيّ من هذه المركبات، فلا يمكن أن تقوم لدولة قائمة، مهما بلغت قوة المركبات الأخرى في تلك المعادلة الرباعية.
- من العصبية تنشأ الحماسة والجرأة على القتال
- ومن القوة تنشأ المنعة وحفظ البيضة والحدود
- ومن الحاضنة ينشأ المدد والاستقرار، ومنها يأتي اختيار أهل الحل والعقد، ثم اختيار الإمام.
- ومن السياسة الشرعية، التي تدعمها القوة تنشأ المرونة في التعامل حسب ضوابط الشرع بما يقلل من الأخطار المحيطة بالدولة الناشئة.
قيام دولة الإسلام في العصر الحديث:
أما وقد مرت بنا نقاط التشابه والاختلاف بين مستلزمات قيام دولة أو إمارة إسلامية، قديماً وحديثاً، فإنه يمكن أنّ ننتقل إلى تصور قيام هذه الدولة أو الإمارة في عصرنا هذا.
أشرنا إلى أنّ "الدولة الإسلامية" اليوم، ليست قائمة على عدم، كما كان الحال عهد رسول الله صلى الله عليه سلم، كما أنها ليست بذات قواعد صلبة على الأرض، بل تفتقد كافة المركبات اللازمة لقيامها إلى حدٍّ كبير. ومن ثمّ، فإن قيام هذه الدولة أوالإمارة يستلزم عملية هدم وبناء، وإصلاح وترقيع في نفس الوقت.
وقد أدى عدم فهم هذه المعادلة إلى فشل التجربة الإخوانية التي اعتمدت نهج الإصلاح والترقيع وحده منذ عصر الهضيبيّ، وفشل التجارب السلفية الجهادية التي اعتمدت أسلوب الهدم وحده، كحركة الجهاد المصرية، والجماعة الإسلامية. هذا عدا فشل سائر الحركات السلفية الأخرى التي لم تراعي أيّ من الأبعاد التي ذكرنا، بل راحت تحاول البناء لا غير، على قواعد مهترأة، فسقطت وفشلت فشلاً ذريعاً، بل صارت معول هدم في عملية التحول للدولة الإسلامية، بعلمٍ أو بجهل، كسلفية الحويني واسماعيل المقدم وعصبتهما، وهم من الغفلة والتراجع الشديد مما أدى إلى فشلها في توجيه الشباب إلى بناء دولة إسلام، بل ساعدت على قهر العصبية الدينية في نفوس أتباعها وزرع روح الاستسلام والتبعية الذليلة محلها، وأعجب لمن يضع أمثالهما في سلة واحدة مع المجاهدين الصادقين من أمثال الظواهري والمقدسي! ولا أشير إلى عصبة المرتد البرهامي إذ هذا قد خرج عن الملة ابتداءً بموالاته المطلقة للطاغوت، تأييداً وتعاوناً.
يتبع إن شاء الله تعالى
الأطروحات – 10 - تكملة قيام دولة الإسلام في العصر الحديث
26 يونيو 2014 – 27 شعبان 1435
(10)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
قلنا من قبل أنّه قد أدى عدم فهم هذه المعادلة[21] إلى فشل التجربة الإخوانية التي اعتمدت نهج الإصلاح والترقيع وحده منذ عصر الهضيبيّ، وفشل التجارب السلفية الجهادية التي اعتمدت أسلوب الهدم وحده، كحركة الجهاد المصرية، والجماعة الإسلامية. هذا عدا فشل سائر الحركات السلفية الأخرى التي لم تراعي أيّ من الأبعاد التي ذكرنا، بل راحت تحاول البناء لا غير، على قواعد مهترأة، فسقطت وفشلت فشلاً ذريعاً، بل صارت معول هدم في عملية التحول للدولة الإسلامية، بعلمٍ أو بجهل، كسلفية الحويني واسماعيل المقدم وعصبتهما، وهم من الغفلة والتراجع الشديد مما أدى إلى فشلها في توجيه الشباب إلى بناء دولة إسلام، بل ساعدت على قهر العصبية الدينية في نفوس أتباعها وزرع روح الاستسلام والتبعية الذليلة محلها، وأعجب لمن يضع أمثالهما في سلة واحدة مع المجاهدين الصادقين من أمثال الظواهري والمقدسي! ولا أشير إلى عصبة المرتد البرهامي إذ هذا قد خرج عن الملة ابتداءً بموالاته المطلقة للطاغوت، تأييداً وتعاوناً.
ونبدأ بالقول بأنّ الخلافة على منهاج النبوة قادمة لا محالة، فهو قول الصادق المصدوق. لكنّه اليوم أمر واقعٍ يجب قراءته بدقة وعناية. ولا شك أن هناك إرهاصات وعلامات على وقوع هذا القدر المحتوم، و"ثم" تقع للتراخي فقد يكون بين الحكم الجبريّ ورفعه وإحلال الحكم على منهاج النبوة محله زمن طويل تقع فيه إرهاصات عديدة، صغرى وكبرى. فأن نفترض أننا في زمن إرهاصاته الكبرى، واقتراب موعده، بعض التفاؤل الزائد، وإن كان محتملاً، لكنه، بالنسبة لنا، مرجوحاً في هذا الوقت.
القوى الجبرية لن تسقط بهذه السرعة. بل، كما سنوضح، ترتبك بتغيير في المعادلة الدولية ككل، لا في شرقنا وحده، لكنها لا تسقط أمام بضع آلاف مهما كانوا. فإنه يجب أن نتذكر أننا لسنا نحارب بوسائل القرن السابع الميلاديّ. لذلك فإني أرى أن ما يحدث اليوم هو من الإرهاصات الصغرى، التي تنبئ بالإحلال عامة، وبصدق الوعد خاصة. لكن هناك خطوات، وإرهاصات يجب أن يعل عليها المجاهدون، بعين مفتوحة على حركة التكتلات العالمية، وبخطة موضوعة محكمة، تبيّن ما هو من الثوابت القطعية التي لا مجال لاجتهاد فيها، وما هو من قبيل الاجتهاد، حسب الواقع والمناط والمصلحة وغيرها. ذلك أنّ العالم اليوم، غير عالم الأمس، بشكل كليّ عام. وتوازناته والتعامل مع متغيراته يحتاج إلى فقه دقيق عميق، لا مجرد قوة عسكرية محمدودة، كما يظن حرورية البغدادي.
الحركة الجهادية هي الوسيلة الأولى والوحيدة التي ستعيد الإسلام إلى الصدارة. لكن، لا يمكن تجاهل أنّ هناك دول كبرى في العالم، وستظل. فقد ظلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت في عهد الراشدين، وظلت في عهد خلافة الإسلام الكبرى أيام الأمويين والعباسيين، ومن بعدهم كافة ممالك الإسلام. فإن يظن أحدٌ أن المسلمين سيغزون نيويورك، ويأتون برأس أوباما تحت قدميّ البغداديّ أو غيره، هو واهم مسكين، لا يحسن النظر في أمور جيرانه، بله أمته. بل الأمر أمر توازنات يجب أن يعمل المسلمون على خلخلة ثوابتها القائمة اليوم، حتى يتم استبدال قوة محل قوة، واستبدال حكم طواغيت العرب بحكم الشريعة والإسلام.
الحديث اليوم عن فتح واشنطن ولندن حديثً لا يدل إلا على الجهل بسنن الله في قيام الحضارات وسقوطها، وجهل مطبق بالواقع، وعمى عن السياسة الدولية. فهمّ المسلمين اليوم هو إيجاد محلٍ يمكن أن يتمكنوا فيه، ويستقروا، ويؤسسوا نظاماً إسلامياً خالصاً، دون محاولة التصادم المباشر مع القوى المحيطة، إلا من صال عليها. إن القوة اليوم، لا زال مركز ثقلها يقع في الغرب، بلا شك. وقوة الجماعات الجهادية المختلفة لا يمكن أن يكون ندّاً لهذه القوى إلا بالحاضنة الشعبية التي تمنع تلك القوى الصهيو-صليبية من الإبادة العامة الشاملة، وهي تحوز قوتها ووسائلها.
المشكلة التي وقع فيها الإخوان المرجئة، أنهم لم يؤسسوا نظاماً إسلامياً خالصاً، بل نظروا إلى قوة العدو الهائلة، غير معتبرينأن لهم أيّ ثقل في توجيه الأحداث. ومشكة الحرورية اليوم أنهم اغتروا بعدة مركبت اكتسبوها، وأراضٍ دخلوها، متناسين أية قوة خارجية بالمرة، وكأنهم يعيشون وحدهم، في فراغ!
مفتاح الدولة الإسلامية التي تريد أن تنجح في البقاء والاستمرار هو في تحقيق التوازن بين ثقلها الحقيقيّ على الأرض، وبين ثقل القوى الخارجية الهائلة، دون تغليب ثقل أحدهما على الآخر.
وهو توازن يحتاج إلى ذكاء فائق، وحنكة سياسية وعسكرية، وإدراك لنفسيات الشعوب ومواطن ضعفها وقوتها، وفهم لمقاصد الشريعة وأولوياتها، وزعامة حاسمة في اتخاذ قراراتها دون ظلم أو إجحاف، ثم حسن تقدير للواقع القائم على الأرض.
الخطوات التي نراها تُهيأ لقيام دولة إسلامية
في أي بقعة من البقاع التي عاش عليها، ولا يزال يعيش عليها "أمة مسلمة"، هي كما يلي:
- تكوين جماعات مسلحة مجاهدة، غير مركزية، تتمتع بمرونة كبيرة في الحركة، وتملك التصرف الذاتي في اتخاذ القرارات.
- أن تتعاون هذه الجماعات بينها بشكل فعّال في تحطيم البنية العسكرية والأمنية للمنطقة التي تعمل فيها، دون أن تتعرض لأي من الأهالي بسوء.
- أن يقتصر عمل هذه الجماعات على بلاد المسلمين دون استعداء لأيّ من بلاد الغرب بعمليات لا تأثير لها في أيّ شأن من شؤون حياتهم إلا "خربشات" لا تضرهم، بل تنفعهم في رسم سياساتهم المضادة.
- أن تتخذ هذه الجماعات من الحاضنة الشعبية المسلمة درءاً ووقاية وملجأ، إذ يستحيل أن تنتصر جماعة إلا بهذا التكافل، لحاجتها إلى "أمة" هي المادة الأساسية للدولة أو الولاية. فالمجاهد ليس أمة، والجماعة ليست أمة.
وإذ قررنا هذه الصورة، فإننا نعود مرة أخرى لنتحدث عن أهل الحل والعقد، والإمارة.
فمن أحشاء هذا الحاضنة، ومن بين صفوف أهل الجهاد، سيبرز من هم أهل لتمثيل هذه الأمة حين يتم التمكين الصحيح، التغلب على نظامٍ قائمٍ وإسقاطه بالكامل، كما حدث، ظاهرياً فقط، في أيام حكم الإخوان في مصر. لكن هنا يجب أن يكون التطعير عاماً سريعا حاسما بلا هوادة أو رحمة أو استثناء، لمن ثبتت عمالته وردته، ليس بطريقة الحرورية، ولكن تبعا للشرع الحنيف. ومن ثم، يكون أهل الحل والعقد، جمعٌ معروف الأسماء والهوية، مقبولٌ لدي الحاضنة الشعبية، وقادة الجهاد، على انخلاف تجمعاتهم.
ثم يجرى، بمعرفة أهل الحل والعقد، اختيار من يرونه الأصلح لقيادة الدولة الناشئة، مع مراعاة حقيقة الصفات المطلوبة في الأمير، دون مجرد مسمياتٍ لا أثر لها إلا محاولة فرضها على الشخصية المقترحة، ما حدث مع البغداديّ في كذبة قرشيته تلك. وهي صفة لا لزوم لها حالياً، إلا بعد أن يكتمل قيام إمارة (دولة) حقيقية، ثم فرض سيطرتها، وبسط سلكانها، بما يجعلها أهلاً أن تعين المسلمين وتدافع عنهم في أماكن هوانهم وظلمهم.، لا أن تسألهم العون أن ينصروها في عقر ما يسمونه دار خلافتهم!
يتبع إن شاء الله
الأطروحات - 11: استراتيجية الدولة الوليدة وخاتمة البحث
9 يوليو 2014 – 11 رمضان 1435
(11)
حتى نستأنف البحث، ونصل به إلى نهاية محددة، فيحسن أن نذكر باختصار بعض ما ناقشناه من قبل. فقد قررنا من قبل:
- أننا حين تستعمل كلمة "المسلمون" هنا، فإنما نعنى أولاً السنة، وثانيا، من هم منهم محبٌ لله ورسوله، لا يعاديهما ولا يقف في وجه تطبيق شريعة الإسلام، ولا يوالى المرتدين والكفار ضدهم، ويحزن لقتل المسلمين في أيّ بقعة من بقع الأرض. أمّأ خلاف ذلك، فهم مرتدون خارجون عن الملة، وإن كانت وسيلة التعامل معهم تختلف بإختلاف درجة عدائهم وقوة تأثيرهم، بدءاً بالدعوة لإيضاح الحق، حتى إقامة الحدّ الشرعيّ المناسب، حين تتحقق الشروط وتنتفي الموانع.
- التنبه إلى حقيقة أن المسلمين محاطون بالأعداء من كلّ جانب، داخليا بحكامهم، وخارجيا بالقوى المجوسية أو الصهية-صليبية.
- أنّ الاستعمار العسكريّ لبعض دول الخليج يمثل ضغطاً أكبر على المسلمين في محاولاتهم لكسر هذا الحصار.
- أنه من العبث الطفوليّ أن يصرف الناس جهدهم في الحديث عن غزو الغرب، وتدبيرات تفجيرات هنا وهناك في بلادهم، فإن ذلك يعتبر من قبيل الطاقة السالبة لا الموجبة، فإن مثل هذا الأمر، يضيع جهداً وأرواحاً مسلمة دون مقابل على الإطلاق، إلا حفزهم على زيادة الترتيبات الأمنية، والبقاء في حالة استنفار بشكلٍ دائم. وقد ناقشنا هذا الأمر بالتفصيل في مقالنا "عن الجهاد والمقاومة.. نظرة فقهية تطبيقية"[22]، المنشور في أكتوبر 2009.
- أن الخيارت المطروحة أمام المسلمين السنة اليوم ليست بكثيرة ولا هي عظيمة آملة. إنما المسلم اليوم، في واقعنا هذا، عليه أن يستجلب النصر باستحضار الإيمان، وبإعداد العدة، وباتخاذ الأسباب الصحيحة، وهي نقطة جديرة بالتأمل والاعتبار، إذ إن الكثير يردد نفس هذا القول، ولكن يستعمل الأسباب الخاطئة، كما فعلت الإخوان بالارجاء، وفعلت البغدادية بالحرورية. وكلاهما ساقط فاشل.
- أنّ الواجب إعداد موضوع "الدولة" قبل إعلانها، و"تمكين" أميرها قبل تنصيبه. وهو ما ناقشناه في أبواب التمكين وأهل الحلّ والعقد.
من هنا فإننا نرى أنّ الخيارات التي أمام المسلمين ، للتعامل مع الداخل والخارج محدودة بحدود قوتهم، ومهارتهم، وتقواهم لله، ومراعاتهم لسننه الشرعية والكونية.
الخيار المطروح للتعامل مع أنظمة الداخل المرتدة:
وتتحدد معالم تلك الخيارات حسب درجة نضوج الحركة الجهادية داخل تلك البلاد فمثلاً في سوريا والعراق أو أفغانستان، حيث تطورت الحركة الجهادية إلى تحقيق معادلة حقيقية على الأرض، غيرها في مصر أو الأردن أو الجزائر، حيث الحركة الجهادية تكاد تكون معدومة، أو مطحونة بالنظام طحناً كاملاً.
وفي كافة الأحوال، فإن التعامل مع النظام يختلف في طبيعته عن التعامل مع الشعب المسلم. ففي الحالة الأولى، يجب على الحركات الجهادية أن تفرّق بين أبناء الشعب المسلم، وبين العدو المقاتل من جنود النظام ومناصريه. أمّا عن حق الشعب المسلم عليهم فهو أن تكون هجماتهم على النظام نوعية على الدوام، لا يتأذى بها مسلم، إذ ليس في الإسلام ما يسمونه "إصابات عارضة"[23]، إلا في حالات خاصة جدا ناقشها العلماء، وفيها اختلاف، كرمي الترس، وهي ليست من المناطات التي نتحدث عنها. كذلك يجب أن تكون تحركاتهم واضحة الهدف، صحيحة الوسيلة، تصدر بها بياناتٍ موضحة شارحة للعمل وما تحقق منه، بعد وقوعه، حتى لا يتخذه العدو وسيلة للتأثير على الجهلة من العوام، وما أكثرهم!
وما يجب أن يحذره المجاهدون هو تلك "الاستراتيجية العسكرية"، التي تتعامل مع الشعب كأغنام تساق إلى تطبيق الشريعة، حسب زعمهم. بل يجب أن تكون الرغبة متحققة في الحاضنة المسلمة، إذ بدونها يصبح جيش المجاهدين كأنه جيش غزو واحتلال، تحت أيّ اسم كان. وسرعان ما ينتفض الشعب على خانقيه، سواءً بحق أو بباطل، فيخرج على الإسلام، ويصبح هؤلاء مدعاة للردة من حيث أرادوا نشر الإسلام! إن نشر الإسلام وتطبيق الشريعة يجب أن يكون نابعاً من رضاء الأغلبية، كما رأينا في المدينة المنورة، تلك الحاضنة المسلمة التي أمّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً وقبل كلّ شئ، ثم انطلق بعدها للغزو والفتح. ولو كان الأمر على غير ذلك التصور، لرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمّع مجموعات قتالية في مكة، ويحارب ويغتال المشركين، ثم يسيطر على أجزاء منها، ويقيم عليها "خلافة"!. هذا ليس منهج النبوة، ومن ثم فهو منهج فاشل دنيوياً وتطبيقياً، إذ إن الباطل شرعا، فاشل وضعاً، ومن ابتغى التمكين بغير وسيلة السُّنة، ضاع منه الدين والدنيا جميعا، كما نرى اليوم في منهج الإخوان الساقط، وحركة الحرورية البغدادية.
إن اكتساب الحاضنة الشعبية، إلى جانب العمليات الجهادية، هو الطريق إلى بناء الدولة الإسلامية. فإن العدو الخارجي غاية قي القوة عدة وعتادا وتقنية. ومن غير أن يتبنى أبناء الشعب أيديولوجية التوحيد، ونصرة المجاهدين، فسيظل هؤلاء كأنهم "خارجون عن القانون"، لا يعينهم أبناء الشعب بسلاح أو مال أو سترة أو معلومة. ومن ثمّ، وجب "تجنيد" العامة بالدعوة، والشرح والبيان، دون أن يلزم من ذلك أن يحملوا سلاحاً، فالمجاهدون يقومون بهذا القدر، لكنه "تجنيد معنويّ"، ينشأ عنه التعاطف والإعانة والمساعدة بكلّ أشكالها.
إن عملية التعامل مع النظم الداخلية المرتدة، ومع الحاضنة الشعبية "المسلمة" هي عملية هدم وبناء، سلب وإيجاب، تماماً كالنفي والإثبات في "لا إله إلا الله". هدم للنظم القائمة على الأرض، وهدم للعقائد الخربة في النفوس، ثم هي عملية بناء نظمٍ بديلة على الأرض، تقيمها نفوس مستنيرة واعية بمعنى الإسلام ومقاصده وأهدافه، بعد تجدد فهمها للإسلام وانبعاث أملها في عدله وكمال شرعه. والمجاهدون لن يتمكنوا، مهما كثر عددهم، أن يراقبوا كلّ وزارة أو ديوان أو محل عمل. وهم لن يقوموا بدور البوليس العقدي في كلّ حين، كما يحدث اليوم من مهازل إصدار "صكوك التوبة" في الدير! والله هذا نهج آباء الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى الأوروبية المظلمة، يتبناه من يدعى السير على هدي محمد صلى الله عليه سلم. التوبة ليس لها صكوك، والتحلى بالإسلام لا يمكن أن يُفرض على شعب كامل، أو غالبه.
الخيارات المطروحة للتعامل مع قوى الخارج:
الكلام "ببلاش" كما يقول المثل المصري العاميّ. ومن ثمّ فإنا نسمع ترديد العوام، ، لكلام مثل أنّ المجاهدين سيغزون اشنطن ونيويورك ولندن، وكيف سيركع أوباما أمام "الخليفة"، وكيف سيأتون برأس الملوك والسلاطين .. الخ، مما يملأ مواقع التواصل الاجتماعيّ، خاصة من تبخّرت عقولهم من حديث الخلافة والدولة، تلك الفقاعات الصابونية والزوابع الفنجانية، التي رأيناها مؤخراً في العراق والشام.
وهذا التبسيط للواقع العالمي، ومعطياته وأبعاده، والتهوين من قدر العدو المترصد، وقَصْرِ النظر على البيئة المحيطة، يؤدى بطريق اللزوم إلى سياسات تقوم على المجازفات. والحقيقة أنّ عدم تقدير قوة العدو الحقيقية، دون تهويل أو تهوين، هي الكارثة الأكبر في مسار أية محاولة لإقامة دولة إسلامية في محيط الكفر العام الذي يعيش فيه المسلمون. إن الخطر الأكبر على تحقيق هذا الهدف هو ذلك الخيال الواهم الذي يعيشه الأكثر من أبناء الإسلام، المحبين لله ورسوله، والقادرين على المجالدة والصراع، وَهْمُ أننا لا نزال نحيا في القرن السابع الهجريّ، بوسائله ومعادلاته وطرق حربه وسلمه. هذه هي القاصمة. فأنت تسمع، ليس عواما فقط، بل قيادات بزعمهم، يتحدثون عما تحكيه كتب التاريخ من مواقف الصحابة أو قادة المسلمين في عز علو الإسلام، ويتصورون أنّ هذا الأمر ممكناً، اليوم، أن يتحقق. ووالله ليس هناك لنا أمل أعزّ من هذا، لكن العقل والعادة والواقع يأبون إلا أن تسير الأمور حسب سنن الله في علو القوم وهبوطهم، ومن ثم سطوتهم وعزتهم. فهؤلاء كانوا في عزة ونحن اليوم في ذلة. هؤلاء صَفَتْ لهم السنة، ونحن قد عُجِنت عقيدتنا بالبدعة، أو غالبنا.
وقد كان من تأثير هذا الانحطاط والتردي، والسيطرة الغربية على عالمنا الإسلاميّ، أن فزع المخلصون من الشباب للتاريخ، للماضي، يحيون فيه، من حيث أنه أسهل عليهم من التعامل مع الواقع من ناحية، وأحيا للكرامة وأحفظ لعزة النفس من ناحية أخرى، فتسموا بأسماء السلف وكنياتهم، ومظهرهم وملبسهم، من باب غريزة حب البقاء، التي تجعل هذه الأفعال، فيما يرون، تضمن استمرار بقائهم، وحفظ وجودهم.
لكنّ هذه الظواهر النفسية، لا تجدي نفعاً حين يأتي وقت الصراع الحقيقيّ. بل إنه من لزوم النصر أن يعود المسلم ليحيا في الواقع الحاضر، وإن احتفظ بماضيه يستلهمه الرؤية الصائبة ويتخذه درعاً واقياً من الانزلاق في مستنقعات الحضارة المعاصرة، فالماضي يمثل جذور البقاء، والحاضر يمثل أوراق النبت وثماره، تحيا في شمس الواقع، وتتحمل ريحه وتقلبات طقسه.
والشرع هو الشرع، في الماضي والحاضر، وفي المستقبل. إنما الأمر هو أنّ الواقع الماضي يحمل مناطات تختلف عن مناطات الحاضر، فالأحكام العامة ثابتة، والفتاوى تتغير. ومن الأحكام ما يستجد حسب الحاجة، وحسب الحالة.
أما وقد قدمنا بهذه المقدمة، فإننا نرى أنّ أمام أيّ كيان إسلاميّ وليد، ثلاث خيارات في التعامل مع القوى الخارجية التي تتحكم اليوم في مفاصل السياسة والاقتصاد وتحوز القوة العسكرية الفائقة.
- الفهم الظاهري والمواجهة الفورية
- اللين والتفاهم وسياسة التعايش والتوافق
- التوسط بتقسيم الأهداف إلى مرحلياتٍ تكتيكية – يلزم لها درجة عالية جدا من الوعي!
وهو ما سنفصل فيه في المقال القادم، الأخير إن شاء الله تعالى
يتبع إن شاء الله
الأطروحات - 12: استراتيجية الدولة في التعامل مع الخارج وخاتمة البحث
12 يوليو 2014 – 14 رمضان 1435
(12)
انتهينا في المقال السابق إلى أنّه أمام أيّ كيان إسلاميّ وليد، ثلاث خيارات في التعامل مع القوى الخارجية التي تتحكم اليوم في مفاصل السياسة والاقتصاد وتحوز القوة العسكرية الفائقة.
- الفهم الظاهري والمواجهة الفورية
- اللين والتفاهم وسياسة التعايش والتوافق
- التوسط بتقسيم الأهداف إلى مرحلياتٍ تكتيكية
ونضيف هنا أنّ السيكلوجية البارعة ليست التي تفكر فيما تريد أو كيف تصل إلى أهدافها مع عدوها، بل هي التي تفكر بعقلية أعدائها، وتضع نفسها محلهم، لترى الخطوات التي يمكن أن يتخذوها قبل أن يتخذوها. ضع نفسك محل عدوك، ثم انظر ما عساه يفعل، بعقله هو لا بعقلك أنت. وهي قدرة تحتاج إلى دربة كبيرة وطويلة، أن يضع الإنسان نفسه محل عدوه، في كل منحى من نواحي الفكر والتطبيق، ليرى ما يفعل عدوه، ويكون منه على أهبة الإستعداد. هذه الدربة معدومة في القيادات الحالية إنعدام الماء في الصحراء الجرداء. فالمسلمون لم يتعودوا هذا المنطق من النظر، بل هم يفكرون دائماً إلى "الخارج"، أيّ ماذا يريدون أن يفعلوا؟ أو ماذا هو ردّ الفعل الأنسب على فعل وقع من العدو؟ أمّا الفكر الاسْتباقي، الذي يتخذ من عادات العدو، ومن أهدافه، ومن مناحي قوته وضعفه، ومن احتياجاته المرحلية، ومن علاقاته الآنية ومصالحة العاجلة والآجلة، ومن طبيعة قياداته وعاداتهم وطرق تعاملهم وأساليبهم، عوامل يؤسسون عليها ما يمكن أن تكون الخطوات التالية للعدو، فهو ما ليس في فكر أحدٍ من قيادات العمل الإسلاميّ، ولا قريب منه.
الأطروحة الأولي: الفهم الظاهري والمواجهة الفورية:
وهي الأطروحة التي نراها اليوم سائدة على الساحة الجهادية، أ في التيار السلفيّ الجهاديّ بعامة، سواء من الحرورية أو من أهل السنة. وملخصها أننا سوف نفعل كذا وكذا، وسنحتل كذا وكذا، وسنقتل كذا وكذا. وهي أطروحة تعين على حماس المقاتلين، وتشدّ أزرهم، وتكتسب عطف الكثير من العوام الذين اشتاقوا إلى الإحساس بالعزة والكرامة والاستعلاء.
لكننا لا نرى أنّ هذه الأطروحة هي المثلى في عالم اليوم، إلا بعد التمكن الحقيقيّ من الحرب والمواجهة. فإنه ليس من السياسة ولا من الحكمة مواجهة عدوكم بنواياك تجاهه وأنت تعلم أنك غير قادر على تحقيقها، بعد. ورسول الله صلى الله عليه سلم، لم يرسل وفوداً للفرس والروم وهو في مكة او في أوائل سنواته في المدينة قبل أن يتمكن من بقية الجزيرة، ويعلم قدرته على المواجهة. وعالم اليوم عالم تقنيّ، يقول القائد الكلمة، فإذا هي وفده إلى العالم كله، قريبه وبعيده، في لحظة واحدة.
وهذا المنطلق ينشأ من ظاهرية عامة في تناول النصوص، وسطحية في فهم الواقع، وغلبة العاطفة على العقل، وقلة فقه بالسياسة الشرعية في عصرنا الحاضر. فكما أنّ الفقه قد تتغير فتاواه بتغير الزمان والمكان والحال، فإن السياسة الشرعية من الفقه. ومن ثمّ وجب أن ينظر اليها المجتهدون من باب ما تتغير فيه الفتاوى حسب حال القوة والضعف، والاستعداد والانتكاس.
وهذا المنظلق يصح ويصلح في حالة وجود "دولة" قائمة لها جيش وعدة وعتاد، ليكون منثل هذه الكلمات واسياسات تخويفاً وإرهاباً للعدو أن يصول عليها. لكن، في مراحل النشأة والتكوين، فإننا لا نرى إلا إنها وبالاً على الحركات الجديدة الناهضة.
الأطروحة الثانية: اللين والتفاهم وسياسة التعايش والتوافق
وهذا المنطلق هو الطرف الآخر من سابقه، وهو إبداء الضعف والتنازل وإمكانية الخضوع للعدو من اللحظة الأولى، وتقديم الحركة على أنها صورة "معدلة" مما هو قائم! وهو المنهج الإخوانيّ في التعامل مع الخارج. وإن كنا نتحفظ، إحقاقاً للحق، فيما أبدي د محمد مرسي من رغبة في تغيير موازين التعامل مع العدو، وما صار له نتيجة ذلك، من حيث إنه لم يأخذ المنهج متكاملاً، بل اقتصر على العلاقات الخارجية، وترك ظهره مكشوفاً لعدوه الداخليّ الأخطر.
وقد يبدو هذا المنطلق أكثر حكمة وروية وتعقلاً من سابقه، لكنه، في حقيقة الأمر، ليس إلا استسلاما مبكراً وحكماً على الحركة الوليدة بالوأد في مهدها. فهذا المنطلق لا يصح ولا يصلح، إذ ليس هو بموافق للشرع ولا للوضع والعقل.
الأطروحة الثالثة: تقسيم الأهداف إلى مرحلياتٍ تكتيكية
وهي التي نحسب أنها أفضل وسيلة للتعامل بين الحركات التي تسعى لبناء الدولة الإسلامية، وبين الخارج. وفي هذا المنطلق، تتعامل الحركة مع استراتيجية واحدة، وهي بناء دولة قوية منيعة مكتفية ذاتياً، لها هيبة وقدرة وصولة. لكن هذه الاستراتيجية لا يمكن الوصول لنتائجها أو تبنّيها دفعة واحدة. ومن ثمّ يكون تقسيم الأهداف إلى مراحل تكتيكية. في كل مرحلة يتغير الخطاب إلى الخارج، حسب الحاجة، مع محاولة تقليل هذا الخطاب أصلاً، إن لم توجد الحاجة الملحة له. ففي المرحلة الولة مثلاًن يجب تجاهل الخارج بشكلٍ تامٍ وإخراجه من معادلة الحوارات والبيانات، وهذا هو عين ما تجد الخارج يتعامل به مع الحركات الوليدة، تجاهلاً كأن امراً لا يحدث، إلا ما هو من قبيل ثرثرات الإعلام غير الرسميّ. وهذا التصرف مبنيّ على أنهم يدرسون الحركة، ويستوعبون أبعادها ليكون ردّ فعلهم مرسوماً مقدّراً[24]. ومن ثمّ، فإنه كلما قلت المعلومات التي تخرج من الحركة كلما عُمِيّ عليهم معرفة أغراضها أهدافها، أو طريقة التعامل معها. وماكلّ هذه التصريحات النارية إلا سذاجة وصبيانية، ضرّها أكبر من نفعها. ثم تأتي مرحلة الإعلان، متأنية خافتة، تعنى بالداخل أكثر من الخارج، وتسمح بالحوار، ما لم يتجاوز الشرع، ولا يبعد عن ناظرها حاجتها للجيرة من حيث الإمداد والتموين.
ونقطة الجيرة أو المتاخمة هذه، من أهم ما عميت عنه أبصار الحركات الجهادية اليوم، إذ إنه، سواءً أردنا أم لم نرد، أحببنا أم كرهنا، فإن حدود ستيكس بيكو لا تزال جاثمة على صدورنا، ولا تزال الحكومات العميلة تتشبث بها حتى تسقط، إذ في انهيارها سقوطها على أية حال. والدولة الوليدة سيكون لها جوار معادٍ وكاره بلا شكّ، من كلّ ناحية. ولهذا نرى أنّ أبا حنيفة قد جعل من شروط دار الإسلام "الجوار" أو "المتاخمة". وهو رحمه الله، في هذا قد كان أبعد الفقهاء نظراً، حيث اتفق معهم في شرطيّ تطبيق أحكام الشرع، والأمان الأول للمسلم، ثم زاد عليهم شرط المتاخمة. وهو أجدر ما يكون بالاعتبار في عصرنا الحاليّ، إذ كيف يمكن أن يكون هناك دار إسلام، وهي محاطة من كل جانب بدول الكفر؟ هذا لايكون، شرعاً ولا عقلاً. فالأمان مفقود، وإمكانية الغزو قائمة، والاكتفاء الذاتي مستحيل، وفرار المرتد ميسور. وهي نقطة أخرى تضاف إلى عوار ما أسموه بالخلافة اليوم!
ثم تكون بعد ذلك مراحل متلاحقة في الإعلان، تتصاعد فيها وتيرة الاستقلالية والاستغناء والكفاية، وإن لم يلزم منها "التحدي" والاستفزاز، والفرق بينهما واضح لمن لديه فقه في سياسة الشرع والعقل.
خاتمة البحث:
مما لا شك فيه، بعدما قدمنا في بحثنا هذا من تفاصيل، أنّ إقامة "دولة إسلامية" في عصرنا هذا، هو أمرٌ جللٌ يحتاج غلى جهدٍ في العلم والعمل، في الفقه والجهاد، في دراسة الماضي واستيعاب الحاضر، في فهم أنفسنا وقدراتنا، وفهم العدو الداخل والخارج. من ثمّ، فإن اعتساف هذا الأمر، ومحاولة اصطناع ظروف تتشابه في عقول العامة على أنها هي ما نسعي اليه، هو من قبيل خداع النفس، لكنه خداع للنفس ذو تكلفة باهظة، في الأنفس والأموال، وتأخيرٌ لجني ثمار الجهود الحقيقية المخلصة، وقد تقرر في الأصول، عقلاً وشرعا، أن من استعجل الثمرة قبل أوانها عوقب بحرمانها.
وإذ وصلنا إلى هذا الحدّ في البحث، فإننا نكتفي بما قدّمنا، مع الاعتراف بالعجز والقصور، لكنه، يعلم الله، جهد المُقل. ونحن على يقين أنّ كلّ نقطة مما تعرضنا اليه في ثناياه، تحتاج إلى شرح وتفصيل وإيضاح، لعل الله سبحانه أن يقيد من العلماء وطلبة العلم من يقوم يجبر تقصيرنا فيما قدمنا. لكننا نوصي أهل العلم أن ينظروا فيما دوّنا، ولعله أن يكون من مناهج التدريس في معاهدهم، ليتفهم من يريد أن يتأهل للجهاد، ما هو مقدمٌ عليه، فلا يقع فريسة أهواء ضالة وبصائر منحرفة.
والحمد لله ربّ العالمين
د طارق عبد الحليم
13 يوليو 2014 – 15 رمضان 1435
مقالات لها صلة بالموضوع
- 1. الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (1) (18 يناير 2013)
- 2. الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (2) (19 يناير2013)
- 3. الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (3) (20 يناير 2013)
- 4. الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (4) (26 يناير 2013)
- 5. الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (5) (28 يناير 2013
- 6. مفاهيم في طريق التمكين ..(3) (05 ديسمبر 2013)
- 7. مفاهيم في طريق التمكين ..(2) (03 ديسمبر 2013)
- 8. مفاهيم في طريق التمكين ..(1) (27 نوفمبر 2013)
- 9. حقائق ثابتة على طريق التمكين (20 نوفمبر 2013)
- 10. جسر العبور .. من الإستبدال إلى التمكين (4 نوفمبر 2013)
- 11. المسلمون .. وفقه الغفلة عن الكوارث (01 ديسمبر 2013)
بعد أن انقشع الغبار - الوثيقة الكاملة .. (14 أبريل 2014) وهي تتناول تطبيقاً على الحالة المصرية، في 18 مقالاً مجموعة في بحث
[1] وسنطلق عليه "التيار الجهادي الجديد" اختصاراً.
[2] باستثناء قاعدة الجهاد في خراسان، فأبناؤها ومنشئوها قد خاضوا غمار التجربة عقدياً وعملياً، لأكثر من ربع قرن، بما يجعلهم ينتمون إلى مستو مختلف كلية عن هؤلاء الذين يتواجدون على الساحة اليوم في الشام والعراق واليمن ومصر وليبيا وبقية الساحة الإسلامية، من منتسبي هذا التيار.
[3] راجع مقالنا "بين مقاصد الشريعة ومبادئها" http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-53959
[5] راجع كتابنا "المصلحة في الشريعة الاسلامية"، طبعة دار ريم ص51 وبعدها
[8] وحين نقول "علماء" لا نقصد "شرعيون" انتقلوا من بلادهم وهم أنصاف طلاب علم، ليلتحقوا بالجهاد، فصاروا علماء بين تلك الجماعات بين عشية وضحاها! هذا باب من أعظم أبواب الخلل في الساحة الجهادية، خاصة منذ أيام الجهاد الجزائري، إلا من عصم الله كالحركة في أفغانستان.
[10] أو الأيديولوجية، حسب تعبير الباحثين الاجتماعيين، وكذلك ما تبناه د أكرم حجازي في دراسته الماتعة المطوّلة.
[11] يعتقد البعض أن فكر الخوارج أصله تكفير المسلم بالسرقة أو بالقتل أو بالزنا أو ما شابه من المعاصي. وهذا تبسيط مخل بأصل الفرقة، ووصف لها بأعراضها، فأصلها تكفير المسلمين ممن يرتكب معصية في نظرهم، لذلك بدؤوا بتكفير علي ومعاوية ولم يكونا سارقين ولا زانيين رضى الله عنهما. فقد رأوا أن تحكيم الرجال هو كفر بمبدأ الحكم لله، ثم ألبسوا هذه الصورة من التحكيم لباس الكفر فكفروا فاعلها ثم حاربوا ووالوا وعادوا عليها، ثم تطورت فكرتهم بعد ذلك مع الزمن لتشمل النعصي الواردة مع اختلاف شاسع بين فرقهم فيها.
وهذا الأصل هو ما عليه هذه الدولة المارقة،لكن بالنسبة لآمور منها ما قد يكون معاصٍ مثل بعض صور التعاون مع المشركين، أو ممن أوّل في موضوع الديموقراكية، فيكفرون العاذر، ومنها مه هو محض افتراء مثل ما فعل العدناني الحروري في تكفير الظواهري، برميه بكل صفة اجتمعت الأمة على كفر فاعلها. فهم إذن يتخذون معاص يلبسونها ثوب الكفر ثم يرمون بها المسلمين ثم يقاتلوهم ويقتلوهم عليها، وهو أصل دين الحرورية بلا خلاف. ولا يلزم أن يشاركوا من عشرين فرقة تحتلف بي حرورية في كل جزئية، فالخوارج أكث من عشرين فرقة يجمها أصل واجد، هو تكفير المسلمين ثم قتالهم على ما رأوه كفرا.
ولو ظل أمر التكفير هذا نظريا لما اكتملت أركان وصفهم بالحرورية، لكنهم خرجوا بالسيف يقتلون علي بدعتهم هذه، فتمت أركان التوصيف، وصح وصفهم بالحرورية.
[14] وهو ما يفهم من كلام الباقلاني في التمهيد في باب الحديث في الإمامة، ولم نجده نصا عنه.
[17] وأقصد بالمسلمين أولئك الرهط الذي لا يزال على التوحيد، ومحبة الله ورسوله، لا شعب السيسي على سبيل المثال.
[19] وأرى أن القرون هي الأجيال، أي الثلاثة أجيال التابعة لجيل رسول الله صلى الله عليه سلم، أي جيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، لا القرن بمعنى مائة عام. وهو ما يأخذنا إلى حوالي الربع الثاني من القرن الثاني الهجريّ، على أكثر تقدير.
[20] كما رأينا على شاشة أحد الفضائيات التي استضافت قائداً ورأسا من العشائر المقاتلة في شمال العراق، فلم يشر في حديثه من قريب أو بعيد لتنظيم البغدادي، بل تحدث عن ثورة عشائرية سنية، وحكومة وطنية وانتخابات!
[21] وهي العلاقة بين وضع الإسلام والدولة في واقع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد الخلافة الإسلامية، وبين وضعها اليوم في بلاد رفضت الإسلام شكلاً وموضوعاً، كنظام حكم، وبقيت ثلة من أهلها عليه عقيدة، لا حيلة لهم، وإن صلحوا كحاضنات شعبية حسب الحال.
[22] http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-384
[24] من أمثلة ذلك تلك الدراسة التي أصدرها جاريت براشمان، عام 2009، المتخصص في دراسة "الإرهاب" في قاعدة وست بوينت الأمريكية الشهيرة، قسم رصد الإرهاب. وقد تحدث فيها بتفصيل عن الحركات الجهادية، وعن عدد من أبرز الشخصيات في هذا المجال كأبي محمد المقدسي وكتابه "ملة إبراهيم"، وأبو يحي الليبي والشيخ أيمن الظواهري وكتابة "الولاء والبراء، كما نقل عنّا ما دوّناه في كتابنا "فتنة أدعياء السلفية وانحرافاتهم"، واستخدمه في بحثه على طول ما يقرب من عشرين صفحة. إقرأ Global Jihadism, Jarret Brachman p22-41، وهو كتاب جدير بالقراءة لمن يهتم بأمر الفكر الغربيّ في الواقع الإسلامي الحرمي والجهاديّ.