الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد
تحدثنا في مقالنا السابق عن "حاضنات شعبية" بصيغة الجمع، من حيث إنّ ذلك يتمشى مع مفهومنا للتمكين، من حيث إنه استعادة السيطرة في أماكن متعددة من أرض الإسلام. ومن هنا، فإن "الدولة" قد تنشأ في أماكن متعددة، مستخدمة لحاضنتها الشعبية الخاصة. وهو أمرٌ طبيعي بالنسبة لتعدد العادات والخصائص والطبائع، ومن ثم طرق التعامل والتعاون والمقاومة. ومن هنا كذلك، يفترق مفهوم "الدولة" أو "الإمارة" عن مفهوم "الخلافة".
فمفهوم "الدولة" أو "الإمارة" هو الأليق بأن يسعى له الساعون اليوم، للعوائق المُتراكبة التي تحدثنا عنها، والتي لن يتمكن فريق أنّ يتخطاها، إلا من عاش في وهم أنه يعمل في فراغٍ سياسيّ، بلا مراقب متربص أو عدو مترصد. ولهذا فإن مجاهدي أفغانستان كانوا من الحَصافة والذكاء أن لم يسعوا لتسمية إمارتهم أو دولتهم خلافة، بل لم يغيّروا اسمها الأصلي "أفغانستان". هذا من قبيل تحييد المراقب المتربص والعدو المترصد. ومع ذلك لم تتركهم القوة الغربية الصليبية إلا خمس سنوات، مُتمكنين حقاً في بلادهم. وهو درس لا نعرف كيف يغيب عمن يتحدث اليوم عن خلافة إسلامية، بل عن دولة إسلامية تتجاوز حدود المناطق التي لا تزال تجاهد فيها دون تمكّنٍ بعد.
ومن ثمّ، فإننا نرى أنّ انتشار "الوعي الإسلامي" وتوسيع رقعة "الحاضنة الشعبية"، هو من أهم عوامل إقامة "الدولة" أو "الإمارة". ويشبه تصورنا هذا في إقامة "الدولة" بعملية "تفتح الزهرة" أكثر من "تفجّر القنبلة"، وإن كانت العمليتان تنتجان أثراً واحدا، لكن الأولى تدوم وتتنتج حياة وتترعرع، والثانية تؤذى وتقتل وينتهى أثرها.
وهذا لا يعنى أن "الجهاد المسلح" هو وسيلة التغيير الوحيدة، كما قررناه من قبل، بل يعنى أنّ هناك فرقٌ بين التعامل مع الحاضنة الشعبية، وهو مَثَل تفتح الورد، وبين التعامل مع العدو الصائل، وهو مَثَل تفجّر القنبلة. والأول يراد له الدوام وإقامة الحياة، والثاني محدود بتحقيق الهدف وهو هدم النظام، لا أكثر.
التمكين:
لابد أن يكون واضحاً أنّ التمكين الذي تقوم عليه "دولة" أو "إمارة" في هذا العصر، بل وفي كل ّعصر، يرتبط بوجود "حدود" ثابتة، تحت السيطرة الدائمة، وعلى وجود عاصمة للإمارة، تدير شؤون الحكومة المركزية، وأن يكون هناك "أمير" لهذه الإمارة معلوم ظاهرٌ بين الناس.
والشكل الذي تدير به الجماعات والتنظيمات الإسلامية جهادها اليوم، لا يمت لشكل "الإمارة" أو "الدولة" بصلة، وإن ادّعى بعضها التسمية. فالأمر ليس أمر تسميات، وإلا كان عبثاً لا معنى له، لكنه أمر حقائق وترتيبات على الأرض، يكون فيها تمكن حقيقي، لا عسكريّ محض، لهذه الإمارة أو الدولة الناشئة.
وسبب هذا، هو أنّ المقصود بهذه "الإمارة" أو "الدولة" هو إدارة شؤون الرعية في تلك البقعة، بما يضمن سلاسة حياتهم، وأمنهم وحمايتهم من العدو. ولو فرضنا أنّ جماعة، أو تجمعاً، استولى على أرضٍ ما، مهما اتسعت، وتناثرت فيها قواته العسكرية، وما زال يحارب عدواً يعيش بين ظهرانيه، ولم تتمتع رعاياها بالأمن أو الاستقرار، ولم يظهر لها أميرها، ولم تعرف تصاريف ماليتها وإدارتها، ما كانت هذه الجماعة أو التجمع دولة أو إمارة بعد، بل ظلت "مشروع دولة أو إمارة"، وظلت تلك الجماعة أو التجمع تحارب في سبيل ترسيخ الوضع الحقيقي المطلوب للدولة أو الإمارة.
واقع الحصار:
الذي يجب أن يفهمه الناظر في مسألة قيام "دولة" الإسلام، هو ذلك الحصار الشامل التي تفرضه قوى العلمانية والصهيو-صليبية، بدعم حكام العرب في المنظقة بلا استثناء، على أية محاولة لقيام "دولة" إسلامية في المنطقة، ويقر لها قرار، وتستمر في أداء وظيفتها لحماية رعيتها. وهذا لا يعنى استحالة هذا الأمر، بل يعنى أنه يجب أن يكون هذا التصور قائماً في أذهان المخططين لهذه الدولة، وواضعي تصوراتها وأهدافها القريبة والبعيدة.
ورفع هذا الحصار، ولو جزئياً، يجب أن يكون من التصورات التي تقوم عليها الجهود الساعية لإقامة مثل هذه الدولة. ولا يكون ذلك بمخالفة الشرع الحنيف، مثلما يفعل البرزاني الكردي اليوم من بيع نفطه للكيان الصهيونيّ، فهذا فشل وضعيّ وشرعيّ، إذ فيه تقوية للعدو الذي يريد هجم كيانك، كرديا كنت أو غير كُرديّ، طالما تنتسب لإسلام ما، بصيغة ما.
وصيغة الاكتفاء الذاتيّ هي الصيغة الأقرب في هذا الصدد، إلا إننا لا نزال نصارع فطرة الاكتفاء الذاتيّ في التسليح. فاهو ل أسلحة الثقيلة والتكنولوجيا، لن يُسمح لها بالتسرب إلى هذا الكيان الوليد، إلا ما تسرب منها، بأي شكلٍ من الأشكال. وفرض الحصار البريّ أو البَحريّ أو الجويّ هو من الأسلحة التي يجب أن تحذرها الكيان الوليد، لشدة أثره الذي رأيناه على جيش صدامن والشعب العراقيّ عقب حرب الخليج الأولى.
أهل الحل والعقد:
فإن ترسخ وضع الدولة، وكان أهل تلك الأنحاء في حرية من أمرهم، جمع الناس أهل الحل والعقد فيهم، واتفقوا على أمير للدولة. وهذا الأمير لا علاقة له بأمير الجماعة أو التنظيم بالمرة. فهذه بيعة وتلك بيعة. ومن ثم، فإن فرَضَت تلك الجماعة المسلحة بيعتها وأميرها على أبناء "الأمة" في تلك الأرض المحررة، كانت بيعة غصبٍ، لا بيعة شرعية، وأصبحت تلك الجماعة غاصبة للسلطة، معادية للأمة ولرعاياها.
والمشكلة هنا هي أنّ الإسلام جاء لتحرير رقاب الناس من كلّ مغتصب، حتى من هم من أبناء جلدتهم، لحقّهم في المخالفة داخل إطار السنة. ونظام الحكم في الاسلام السنيّ يقوم على الشورى لا على الحكم الجبريّ، أو النظام الديكتاتوري، حتى لو تبنى الشريعة نظاماً، فالدكتاتورية أمرٌ لا يعرفه الإسلام ولا يقره، وإن ادّعى أصحابه توخى المصلحة، تماما كما لا يعرف الديموقراطية وإن ادّعى أصحابها نفس الدعوى. الإسلام نظامٌ ثالث لا يعرف ديكتاتورية ولا ديمقراطية. لا يعرف ديكتاتورية الحرورية، ولا ديموقراطية الإخوان. كلاهما ساقطٌ في النظر السنيّ. وهنا يأتي التوصيف الصحيح والوظيفة الحقيقية لأهل الحلّ والعقد.
ومن ثمّ، فإن أهل الحلّ والعقد، يجب أن يجتَمعوا، بعد مرحلة التمكن، وأن تكون كلمتهم هي الأعلى. وليس لأمير تنظيمٍ، قاتل في مراحل التمكن، قبل التمكين، وأسمى نفسه "أمير المؤمنين" أن يفرض نفسه على كافة رعايا "الدولة"ز فإن هذا لا يكون إلا نتيجة فهمٍ منحرفٍ ظاهريّ لقواعد الإمامة ودور الإمام ووظيفة أهل الحلّ والعقد. ومثل هذا التصور الظاهريّ، الجبريّ، الديكتاتوريّ، لن ينتج إلا صراعا مستمراً داخل "الأمة"، ولن يكون إلا أداة لقتل الأرواح المسلمة، بدلا من حمايتها، بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. وحتى إن ظهر أتباع هذا الفهم المُنحرف الظاهري الديكتاتوريّ الحروريّ، فإن هذا الكيان لن يكون ممثلاً "للدولة" التي تقوم على منهاج النبوة، وإن ظن أتباعها ذلك، بل سيكون ذلك محض تخرّص على السنة وعلى الإسلام. ويكون، في تلك الحالة، لا يزال الحكم الجبريّ الشامل، واقعٌ على "الأمة"، لكن مع تغيير المسميات دون الحقائق.
والصفتان الأهم في صفات أهل الحل والعقد، في هذه الحالة هما نفاذ الكلمة على العامة، مع العلم الشرعيّ. وبدون أيهما، لا يصح أن يُعتبر الفرد من أهل الحل والعقد. فبدون الأولة، لا تجتمع الكلمة، وبدون الثانية ينحرف النظر والتصور.
هل تقوم "الدولة" دون عصبية؟
ومفهوم العصبية الذي قرره بن خلدون هو مفهوم رائع حق كلّه، وإنما يتلبس بصفة مغايرة مع الزمن. فالعصبية القبلية، والعزوة العائلية التي قصدها في مقدمته، كانت هي السبب في قيام الدول الأولى في الإسلام، بعد عصر الراشدين. لكن مع تطاول الأزمان، وتخالف العادات بين المتابعين للدين، في أنحاء الأرض، واستقرار الكثير من القبائل والعشائر، وظهور النعرات القومية التي حاول الغرب جعلها مكان النزعة المتسلطة في نوفس البشر من الولاء العصبيّ، وهو ظاهر فيما أقامة من الحزبية السياسية، وأو الدوريات الرياضية، كقنوات تفريغ تشغل الناس عن توجيه العصبية إلى أمر مالكي السلطة، فيزعزعها تدخلهم فيها.
يقول بن خلدون "في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق. وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة. وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. قال تعالى: " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم " ، وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله. اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة، كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لارب سواه."
وقد رأينا في مصر أنّ فقدان العصبية بين المعارضين، وتشتت أغراضهم بين علمانيّ وإخوانيّ وعاميّ لا وجهة له، قد أفشلت الحراك في 2011. ورغم أنّ الإخوان قد لجئوا إلى عصبية الجماعة، إلا إنهم لم يعززوها بما هو لازم لها من القوة، فلم تجدى عنهم شيئاً. بينما لجأ العسكر إلى العصبية العسكرية المتلائمة في غرضها، الحائزة على القوة، فتغلب، على باطله. يقول بن خلدون "في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح كما مر "ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه " وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية."
كما رأينا أن الحِراك في العراق، لم يثمر حقا إلا بعد تدخل قوى العشائر والقبائل في أوائل شعبان 1435، إلى جانب التنظيم البغدادي الحروريّ، مما أتاح هذا الاكتساح السريع للرافضة الأنجاس.
الأطروحات – الدولة والعصبية وأهل الحل العقد 9
د طارق عبد الحليم
22 يونيو 2014 – 24 شعبان 1435