يهنئ الموقع المسلمين السنّة في أنحاء العالم بعيد الفطر المبارك، وندعو الله أن يرفع عن المسلمين الغمة في كلّ مكان، وأن يرفع العدوان عن غزة
مقالات وأبحاث
الجهاد الشامي ومسارات الفتنة - 1
الخميس 24 أبريل 2014
عدد المشاهدة : 339
الحكم الجبري: مقدمات ونتائج ليست الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب العالم الرأسمالي وكذا انتشار الإباحية والفقر والغلاء وانحدار القيم وسيادة العلاقات العدوانية بين الدول والنظم من جهة وفيما بين الناس من جهة أخرى إلا علامات تدل على أن البشرية والمعيش الإنساني وصل إلى طريق مسدود، جعلها تبدو وكأنها تنعطف بسرعة لا مثيل لها. وبالتأكيد فإن الثورات الشعبية العربية تمثل رأس حربة هذا الانعطاف، لاسيما وهي تقدم نموذجا مميزا للاحتجاج الإنساني على الظلم الذي بات يستوطن في كل مكان. و بطبيعة الحال لن تستسلم قوى » الجبر« وأدواته المحلية، كعادتها، قبل أن تخوض منازلتها الأخيرة بحيث تتجلى سنة التدافع الإنساني على مشاهد مؤلمة من الكرّ والفرّ، سلماً أو حرباً، وعلى امتداد الاجتماع الإنساني في الأرض. لكنها منازلة لا يمكن أن تنتهي إلا بإزالة الفساد وصلاح الخلق وعبادة الله في الأرض. وفي هذا الوقت الذي تتهافت فيه الأيديولوجيات وتُستنزف فيه آخر المذاهب الفلسفية والمادية، وتفقد صلاحيتها للاستهلاك البشري؛ وحيث لن يكون ثمة بديل لملء الفراغ إلا الإسلام، ستبدو الحاجة ملحة إلى دور فعال للعلماء بعيدا عن الانزواء أو أية أجندات سياسية أو أمنية، إبراءً للذمة في الخلافات التي تضرب الأمة خاصة في قلب هذا التدافع العاصف. نحن أمة تعيش في زمن » الجبر« حيث لا صوت للإسلام والمسلمين إلا بشق الأنفس. وقد لا يهم الأمة أن تدرك إنْ كانت في أول » الجبر« أو في آخره. لكن يهمها أن تعلم ولو سببا واحدا يمنع العلماء من التوقف عميقا عند هذه المرحلة، والتحصن بأهل الرأي والمشورة والنصح والعلم والمعرفة، كي تكون قراءاتهم وفتاواهم مبنية على وضوح المشهد برمته وليس على جزء منه، ولتقديم كل ما يلزم من الفهم الشرعي والموضوعي الذي يسمح للأمة بأن تعرف حقوقها وواجباتها وتستبين طريقها دون تخبط أو كوارث عقدية وبشرية. فلا يصح ولا يجوز، وليس عدلاً؛ بل ومن الظلم الفادح، أن يتصدى خواص الأمة وعامتها لمسائل هي من اختصاص العلماء الشرعيين أكثر من غيرهم، فكيف بمن يتصدر شأن العامة من الدهماء والمغرضين والجهلة والمتنطعين؟ وعليه؛ فإذا كان من حق الأمة أن تحتمي بكلمة العلماء الربانيين الذين لا يخشون في الله لومة لائم فمن الواجب عليهم أن يستجيبوا ويقروا، بشكل قاطع، أن الأمة واقعة فعلا تحت » الحكم الجبري«، وأنهم يتحملون أمانة إخبارهم، بشكل قاطع أيضا، بماهية التوصيفات الشرعية لهذا النمط من الحكم، وكل ما أفرزه » الجبر« من قضايا خلافية تروج وتدافع (عن) أو تحارب وتجاهد النظام الدولي وشرائعه ونظمه السياسية والاقتصادية والمالية والتجارية والتعليمية والثقافية والقيمية. في هذه الحلقة الأولى من سلسلة » الجهاد الشامي ومسارات الفتنة« سنشرع في التأصيل لموضوع » الحكم الجبري«، بمقدماته ونتائجه، ثم في معاينة أنماط التفكير التي أنتجت ما نعتقده عقلا جبريا قرأ المسائل العقدية بلغته وليس بلغة الشرع. فماذا نجد؟ · الجبر لغةً وشرعا » الجبر« في بعض المحتوى اللغوي هو القهر والإكراه، ويقال: » جَبَرَهُ على الأمر وأجْبَرَهُ: أي قَهَرَهُ عليه، وأكْرَهَهُ على الإتيان به«. و » رجل جَبَّار: أي مُسَلَّط قاهر«، و » الجَبَّارُ هو: الذي يَقْتُلُ على الغَضَبِ و القَتَّال في غير حق«. وفي التنزيل: » وإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ«، وكذلك قول الرجل لموسى عليه السلام: » إِن تُرِيدُ إِلا أَن تكونَ جَبَّاراً في الأَرض«، أَي » قتَّالاً في غير الحق، وكله راجع إِلى معنى التكبر«، أي، وبحسب اللغة، إلى » العظمة والتجبُّر والترفُّع عن الانقياد«. وفي السياق اللغوي يمكن ملاحظة الشمول في عبارة » جَبَّاراً في الأَرض«!! بمعنى أن » الجبر« يقع على جميع من في الأرض وليس على جزء منها. وفي التعبير السياسي الشائع فـ » الجبر« هو » الهيمنة«. و » اسم الفاعل« منها في اللغة هو » المُهَيمِن«، و » اسم المفعول: المُهيمَن عليه«. و » هيمن المُصلِّي: قال آمين«، أي: » اللهم استجب« أو » ليكن كذلك«، وهي هنا تفيد الخضوع والتسليم. وعن هيمنة الكتاب ورد في التنزيل: » مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ«: أي، بحسب تفسير السعدي، » مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية«. ويقال: » هَيْمَنَ الطَّائِرُ عَلَى فِرَاخِهِ: أي رَفْرَفَ«، و » أَحْكَمَ هَيْمَنَتَهُ: أي سَيْطَرَتَهُ وسَطْوَتَهُ«، ويقال أيضا: » هَيْمَنَ على كذا: أي سيطر عليه وراقَبه وحفِظَه«. أولا: شروط الدخول في » الجبر« إذن » الجبر« ( = الهيمنة ) مفهوم ينطوي على معاني العمومية والشمولية، ويتأسس على » العظمة والتجبُّر والترفُّع عن الانقياد«، وتبعا لذلك سيمتلك من السمات المميزة التي تمكنه من ممارسة: (1) القهر والإكراه ( التسلط)، و (2) إحكام السيطرة والسطوة (الإخضاع)، و (3) الرقابة، و (4) الحفظ، على كل من في الأرض، تحت تهديد » القتّال في غير الحق«. فما هي الشروط التي توفرت في مجموعة بشرية بحيث باتت الطريق للدخول في مرحلة » الجبر« ممهدة؟
الشرط الأول: عصر العلم والمعرفة فقد توجت المرحلة الوضعية التي مرت بها أوروبا في تحقيق صدمة حضارية تمثلت بانتقال البشرية من المرحلة البيولوجية إلى المرحلة الميكانيكية مع مطالع القرن 19. هذه النقلة العلمية والمعرفية تعني على وجه التحديد: (1) أن أوروبا تمكنت من تعريف المادة والقدرة على السيطرة عليها والتحكم بها ومن ثم تشكيلها كيفما تشاء. فالمادة هي مجموعة من الجزيئيات. وكي نتلمس قيمة التعريف يكفي أن نعرف أن العالم الرقمي الذي يقوم على تكنولوجيا » النانو« يعرف وحدة » النانو« بكونها تساوي جزء من مليار جزء!!! فإذا كانت الحضارة التي نشهدها قد مرت من العصر الميكانيكي إلى العصر الصناعي ثم التكنولوجي وأنتجت هذه الهيمنة بكل موجوداتها وتجلياتها الوحشية التي نعرفها فماذا ستنتج تكنولوجيا » النانو« القادمة؟ وأي حضارة سنعيشها؟ (2) وأن أوروبا بانتقالها النوعي تمكنت من الاستثمار في الزمن ومراكمته بصورة لا مثيل لها. فما كان يستهلك من الزمن لإنجازه أياما أو شهورا أو سنوات صار من الممكن إنجازه ربما في ساعات، وهذا يعني الاستحواذ على كم هائل من الوقت لا يمكن تخيل مخرجاته في شتى قطاعات التشغيل والحياة الإنتاجية، وبالمقارنة مع ما يمكن أن توفره العلوم الرقمية من الوقت فسيكون الأمر أبعد من قدرة رواد هذه العلوم على التخيل. ولمزيد من الإيضاح يمكن ملاحظة أنه قبل العلوم الرقمية كانت وكالة نازا الأمريكية للأبحاث الفضائية تحتاج إلى 20 دقيقة كاملة للتواصل ذهابا مع مركبة فضائية ومثلها كي تتلقى الجواب!!!! لكن مع انفجار تكنولوجيا العلوم الرقمية انتهى عصر إهدار الوقت ودخلنا في عصر استثماره. وحين تصبح العلوم الرقمية هي نمط الحياة الذي يميز الدول والشعوب فلا شك أن مراكمة الوقت ستبلغ أرقاما فلكية. وبمقارنة بسيطة يمكن القول أن الإنسان في العصر التكنولوجي سار بسرعة الطائرة والصاروخ .. لكنه في العصر الرقمي قد يسير بسرعة الضوء. (3) وأن أوروبا صارت بحاجة إلى مراكمة ما تحتاجه من ثروات وموارد للاستثمار في العلم والمعرفة، وللصرف على الانطلاقة الصناعية. ولتحقيق ذلك لا بد من انطلاق العربة الاستعمارية بكل وحشيتها باتجاه دول العالم كافة. (4) وتعني، وهو الأهم، أن أوروبا العقلانية غدت مؤهلة لامتلاك أدوات القوة النوعية التي تمكنها ليس فقط من الوصول إلى أبعد نقطة ترى فيها مصالحها، بل والحفاظ على هذه المصالح سواء كانت موجودة في المكان نفسه أو بعيدة عنه. ميزة هذا الشرط أن المعرفة والعلم هما بالضرورة امتيازات ومكاسب قيمية ومادية خاصة بقوى الجبر العالمية نفسها، وبالتالي فهي ليست قيما كونية ولا امتيازات قابلة للتقاسم والمشاركة مع البشرية. وتبعا لذلك فلا معنى لأية مفاهيم تتحدث عن وحدة الإنسانية والمساواة والعدالة والتسامح والحرية والديمقراطية ... كأسس بنيوية لاكتساب أدوات القوة وإنتاجها إلا في ذات منظومة الجبر. أما خارج المنظومة فليس ثمة مبرر أو وظيفة لترويجها إلا للاستهلاك البشري وليس للإنتاج. الشرط الثاني: إقامة » الدولة القومية« تعتبر بريطانيا، بنظر المؤرخين السياسيين أقدم دولة ظهرت بالمحتوى السياسي المؤسسي الراهن، وقد تشكلت في أعقاب الثورة الإنجليزية (1640 - 1660) في صيغة اتحاد سياسي من إنجلترا وويلز واسكتلندا في 1/5/1707. ولأن بريطانيا بروتستانتية فلم تتأثر أوروبا التي تدين غالبيتها بالمذهب الكاثوليكي كثيرا، إلا في أعقاب الثورة الفرنسية سنة 1789. قبل ولادة » الدولة القومية« كانت أوروبا أشهر ميدان في الصراع بين الفرق الدينية المسيحية التي لعنت بعضها، وكفرت بعضها بعضا، وخاضت حروبا طاحنة فيما بينها لقرون طويلة ومظلمة ودموية؛ فقد كان من الطبيعي أن تتميز أوروبا بكونها ساحة للصراعات الفكرية الناجمة عن هيمنة الكنيسة، باعتبارها المسؤولة الوحيدة عن نمط الحياة واحتكار التشريع فيما يجوز ولا يجوز. وعلى وقع المعاناة والثمن الباهظ الذي دفعه العلماء من أرواحهم وأجسادهم شق » العقل الوضعي« طريقه إلى الحياة الأوروبية، واستطاع أن يتجاوز المرحلتين » الميتافيزيقية« و » المثالية« ويبلغ المرحلة » الوضعية«. وفي السياق كانت أوروبا أول ميدان في الصراع على » فكرة القومية« التي بدأت كـ » نزعة« تغزوها منذ أواخر القرن 18، إلى أن تبلورت واستقرت كمفهوم على وقع الحروب الدموية والحراك السياسي واللغوي والإرادة العامة في العيش المشترك والاقتصاد وحتى الثقافة والقيم والأيديولوجيا وصولا إلى البايولوجيا التي طبعتها بالطابع التنافسي والعنصري الاستعلائي. وفي النهاية أسفرت عن تفكك الصيغة الإمبراطورية في الاجتماع الإنساني الأوروبي إلى صيغة قومية على شاكلة البريطانيين، السلاف، الألمان، اليهود، .... . في المحصلة فإذا كانت النشأة التاريخية لـ » الفكر القومي« الأوروبي ليست إلا نتاج أصيل لكل هذه الصراعات والأفكار؛ بما فيها » عصر الأنوار« الذي عج بالفلسفات الوضعية كاللبرالية والعلمانية والعنصرية والمذاهب المادية كالاشتراكية والرأسمالية والماركسية، فإن » الدولة القومية«، لا يمكن أن تكون إلا الابنة الشرعية لهذا » الفكر «، ولأنها قامت على أنقاض » الدولة الدينية« فهي بالضرورة والنشأة معادية للدين بقطع النظر إنْ كان وضعيا أو سماويا، صحيحا أو محرفا. ومع نمو النزعة القومية لم يعد الناس يتعارفون فيما بينهم على خلفية الانتماء الديني، كأن يقال: هذا مسلم وذاك مسيحي أو يهودي أو مجوسي أو بوذي أو هندوسي ... . وتبعا لذلك لا تقيم » الدولة القومية« أي وزن للدين في الحياة العامة، ولا تستعمله إلا كمعطى وظيفي في الحشد الاجتماعي لتحقيق أغراض سياسية أو اجتماعية. بل أننا لن نجد على وجه الأرض دولة واحدة تحكم بموجب الدين. ويشمل ذلك دولة اليهود في فلسطين التي أسسها العلمانيون والملاحدة اليهود بنسبة تزيد عن 80%. ولم تكن اليهودية بحد ذاتها هدفا بقدر ما كانت، ولمّا تزل، مشروعا سياسيا لمنظومة استعمارية صرفة جرى تغطيتها بلباس توراتي مزعوم. لكن أطرف ما في » الدولة القومية« أنها شابهت الكنيسة في استلهامها لإرث الحضارتين اليونانية والرومانية وحتى المسيحية، ولم تتخل أبدا عن ثنائية » الأسياد« و » العبيد«!! فالنظام الفيودالي الذي ساد أوروبا تحت حكم الكنيسة لم يكن إلا استيحاء، وإلى حد كبير، من الفلسفة الإغريقية ذاتها في تجلياتها » الإفلاطونية« للمجتمع والدولة من جهة، وللعلاقة بين » الأسياد« و » العبيد« من جهة ثانية، حيث لم يكن ثمة » مجتمع« ولا » مواطن« ولا حتى » إنسان« بقدر ما كان هناك » أسياد« و » عبيد«. لذا ليس غريبا أن يقوم النظام الدولي الراهن على ذات الثنائية فيما يسمى زورا بالعصر الديمقراطي والحريات وحقوق الإنسان. ومن يقرأ كتاب أفلاطون المسمى الجمهورية ( The city) فضلا عن النظريات العنصرية والوحشية في » مبدأ السكان« و » أصول الاقتصاد السياسي« لروبرت مالتوس (14 /2/1766- 23 /12/1834) و » الأمير« لميكيافيلي (3 /5/1469- 21 /6/1527) سيعلم جيدا حقيقة » الدولة القومية« المتوحشة التي تتغنى بها أوروبا، وتشكل الوحدة السياسية المركزية للنظام الدولي القائم حاليا. ولا يغير من هذه الحقيقة التاريخية الوثيقة الشهيرة التي كتبها فلاسفة التنوير في أعقاب الثورة الفرنسية باسم: » حقوق الإنسان والمواطن«! حيث لم يكن ثمة إنسان ولا مواطن ولا مجتمع في أوروبا. وهي ذات الوثيقة التي أقرتها هيأة الأمم المتحدة في 10/1/1948 باسم » الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«!!! إعلانهم ومشكلتهم وليس مشكلة العالم الإسلامي والمسلمين. ولم تصلنا هذه المشاكل إلا لما قامت « الدولة القومية». لذا لم يكن غريبا، مع هكذا مرجعيات، أن تكون » النازية« و » الفاشية« و » العنصرية« و » الفوضوية« و » الأممية« و » الصهيونية« و » الماسونية« منتجات أصيلة لـ » الفكر القومي« الأوروبي أولا، و لـ » الدولة القومية« ثانيا، وليست بدعا من القول. هذه الحمولة أثبتت مخرجاتها، بالوقائع القاطعة، أنها أشد دموية من » الدولة الدينية« في أوروبا. فـ » الدولة القومية« هي التي قادت حملات الاستكشاف الضخمة في العالم، وهي التي انطلقت في حملات استعمار واستعباد وقهر الشعوب، وهي التي نشطت في عمليات نهب منظمة لثروات الأمم، وهي التي أفرزت قيمها حربين عالميتين، وقنابل ذرية اختُبِرت فاعليتها على البشر، وهي التي أودت بحياة عشرات الملايين من ضحايا الإبادة والحروب والتعذيب، وهي التي زرعت أنظمة الاستبداد ورعتها، فضلا عن تفكيك العالم الإسلامي. الشرط الثالث: إقامة النظام الدولي مع اكتشاف المادة والسيطرة عليها والانتقال من صيغة » الدولة الممتدة« إلى صيغة » الدولة القومية« باتت الطريق ممهدة لإقامة نظام دولي يمكِّن أوروبا من تقاسم النفوذ فيما بينها ويسمح بالسيطرة على العالم. وكانت سنة 1824 أولى بواكير النظام الجديد الذي أسسته أوروبا ودعت الدولة العثمانية، بخبث، للانضمام إليه. لكن ما كان على أوروبا أن تدركه، وقد فعلت مبكرا، أن الانتقال من صيغة العلاقات الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية بين الدول، إلى صيغة النظام الدولي لن ترى النور ما لم يتم تفكيك الدولة العثمانية بأية وسيلة، بوصفها آخر وأخطر » الدول الممتدة« والعابرة للقارات، وهو ما كان إلا أن يحصل في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1913 – 1916). بدأ تفكيك قلب العالم الإسلامي فعليا ابتداء من أوائل القرن التاسع عشر. فاحتلت فرنسا الجزائر سنة 1832، وتونس سنة 1882، وفي نفس السنة احتلت بريطانيا مصر. وفي سنة 1911 احتلت إيطاليا ليبيا. وتبعا لذلك بدت مصر حاجزا فاصلا بين المغرب العربي ومشرقه. بعد الحرب العالمية الأولى أقدمت الدول الاستعمارية الأوروبية على إنشاء أول منظمة دولية باسم عصبة الأمم سنة 1919، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ورثتها هيأة الأمم المتحدة. وضمت سلسلة من المؤسسات العامة والمتخصصة أبرزها مجلس الأمن الذي يضطلع بحسب الميثاق بمهمة الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. لكنه في واقع الحال ليس إلا » المركز« الذي يمتلك من أدوات القوة كالعلم والمعرفة ( تكنولوجيا التسلح) والعولمة (أدوات الاتصال والإعلام) و مصادر الطاقة ( النفط والغاز) والغذاء ( الإنتاج الغذائي والدوائي) ما يمكنه من التحكم والسيطرة والرقابة والقدرة على التدخل والحفاظ على امتياز الهيمنة على العالم. ولأن النظام الدولي قابل للتفكك خاصة وأنه أقيم على أنقاض العالم الإسلامي القابل للالتحام، فقد حرص بناته على تحصين نفسه من الانهيار عبر ربطه بثلاثة مرابط في عقر ديار الإسلام. لذا لم يكن عبثا أن يكون: (1) المربط اليهودي في بيت المقدس، وهو عبارة عن قاعدة عسكرية متقدمة لمنع أي شكل من أشكال الالتحام. (2) المربط النصيري في الشام، ومهمته احتواء كافة حركات التحرر والتمرد التي ستنشأ ردا على تفكيك العالم الإسلامي والهيمنة. (3) المربط العقدي المنتشر في كل العالم، حتى لو كان مركزه مهبط الوحي، والذي بموجبه جرى انتزاع الفتوى وتوظيفها في خدمة النظام الدولي وأمنه واستقراره، فضلا عن فرض الوصاية التامة للدولة القومية على الدين. ثانيا: الوقوع في » الجبر« ليست الشروط الثلاثة التي عرضناها إلا تعبيرا عن البنية التحتية لـ « الجبر»الذي سيخضع لسلطانه وتشريعاته كل بني البشر. أما العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي، فقد استأثر بنصيب الأسد من » الجبر« الذي صُبَّ عليه صبا. فماذا نجد؟ (1) الجغرافيا أول ما يمكن أن نلاحظه في ظل » الجبر« هو انهيار معادلة الصراع العسكري بين » الكفر« و » الإيمان«، والتي كانت سائدة في أنماط الحكم الثلاثة السابقة ( النبوة والخلافة والملك العاض أو العضوض). فقد كانت وقائع الصراع بين العالم الإسلامي وملل الكفر تجري على الثغور. ورغم خسارة العالم الإسلامي الكثير من الأمصار والحواضر إلا أنه كان يكسب أيضا حتى في قلب أوروبا التي اخترق حصونها الكبرى. لكن بعد الحرب الأولى بات واضحا أن ملل الكفر أطبقت على العالم الإسلامي دفعة واحدة، ولم ينج مَصْرٌ واحد من الهيمنة، مما يعني (1) استحالة إفلات ولو دولة واحدة أو مجتمع إسلامي من المراقبة والسيطرة والتحكم، أو (2) استعادة القدرة على إقامة ملاذ آمن يمكن الانطلاق منه ثانية، أو (3) السعي لامتلاك سلطان العلم والمعرفة أو أية أدوات للقوة خارج السيطرة، لأن التحام العالم الإسلامي تحت نظام الخلافة، وفي ظل العلوم الرقمية مثلا، أمر يثير لدى » المركز« أشد درجات الفزع. بل أن العالم الإسلامي تعرض مع نهاية الحرب العالمية الأولى إلى تمزيق، سياسي واجتماعي، شديد لم يزل قائما منذ مائة عام تقريبا. فقد قسمت (1) بلاد الشام إلى أربعة دول قومية، و (2) بلاد الترك إلى ستة دول، و (3) الجزيرة العربية إلى سبعة دول، و (4) المغرب العربي إلى خمسة دول، و (5) بلاد الهند إلى ثلاثة دول، و (6) الكرد تم حرمانهم من أي كيان سياسي وتوزيعهم على أربع دول إقليمية كبرى، و (7) بدت مصر، المنزوعة الهوية حتى الآن، حدا فاصلا بين المشرق العربي ومغربه. ولعل أطرف ما حل في العالم العربي ظهور دول لا يزيد عدد السكان فيها، غداة إعلان استقلالها، عن أقل من بضعة عشرات من الآلاف مع مساحة من بضعة مئات أو كذا ألف كيلو متر مربع، بحيث لو وقف أحد ما على طرف الدولة من مرتفع بسيط يمكنه رؤية الطرف الآخر. مع ذلك اتخذت هذه الدول من مجالس شوراها أو شعبها مسميات من نوع » مجلس الشعب« أو » مجلس الأمة«!! واستنبتت لها تاريخا غالبيته الساحقة من وثائق الحكومة البريطانية. وغني عن البيان أن دولا بهذا الحجم لا يمكن أن تتمتع بأية فرصة في الاستمرارية خارج » المركز« الذي أنشأها. (2) الدين بما أن الإسلام، في السياسة، هو أصلا نظام حكم أكثر منه دولة، فقد حرص النظام الدولي » الجبري« على انتزاع سلطان الأمة ممثلا بنظام الخلافة انتزاعا بالقوة القاهرة. وفي المقابل أُخضِع إخضاعا تاما لمنظومات القوة الدولية وشرائعها الوضعية. ومن الطبيعي، في ظل الجبر، أن يتم إسقاط الشريعة ليس كمرجعية في الحكم فحسب بل وكنمط حياة. وأكثر من ذلك فقد جرى إشاعة وتعميم الفلسفات والمذاهب الوضعية والشرائع الدنيوية والثقافات المنحطة باعتبارها نتاج إنساني وقيم كونية. وبدا الدين ونظم التعليم الشائعة متطابقة مع مدخلات » الجبر« تطابقا تاما. وغدا الاعتقاد والعبادة والتفكير والتأهيل والتعليم والثقافة والعمل والتجارة والاقتصاد وكافة أشكال التلقي، حتى في الأحلام والرؤى، خاضعة لما تفرزه ثقافة » الجبر« وعلومه .. تعيش وتنمو وتنتج وتشتغل وتستهلك وتصالح وتعادي وتنام وتصحو بموجب كينونته وأدواته ومناهجه وآلياته المعرفية والذهنية. وتبعا لذلك صار حال الأمة كما قال عز وجل: » كالأنعام بل هم أضل سبيلا«!!! فقد تلقت من الدين ما يوافق » الجبر« ويشرِّع له، وتلقت من العلوم ما يبقيها تحت » الجبر«، وحصلت على التكريم بما جعل من المستبد حكيما، والفاشي القومي بطلا، واللبرالي مسلما، والماركسي شهيدا، والعالم الخائن والملبس جليلا، والإعلامي المرتزق مخضرما، والمجاهد إرهابيا. وبررت قوى » الجبر« العالمية وبعض أدواتها انحطاط الأخلاق والقيم بالحرية، ومظاهر الدعارة بالجرأة، وقدمت العمالة والخيانة بوصفها وجهة نظر، ... وأخيرا جرمت التكفير وبرأت المجرمين عبر ما يسمى بـ » حرية الضمير« كما ورد في الدستور التونسي. في المحصلة فقد حطم » الجبر« كل المرجعيات الدينية والأخلاقية والقيمية والتاريخية، ولم يعد ثمة مرجعية دينية أو أخلاقية أو قيمية يمكن الاحتكام إليها في فض النزاعات الاجتماعية والخصومات، وتوالى استنزاف المرجعيات حتى قاربت التمايزات الاجتماعية والفضائل على الزوال، وتوحدت الثقافة العدائية ما بين الفئات العمرية لتسير بالمجتمع نحو التصادم الحتمي، بل أن عدوانية المجتمع ظهرت ضد نفسه أكثر مما ظهرت ضد أعدائه وخصومه، سواء في الجامعات والمدارس والأسواق والشوارع والأحياء وحتى المساجد أو بين الأقارب والعائلات والقبائل .. وأكثر من ذلك فقد بدا أن الأمة قابلة للانقسام وخاسرة على كل مستوى إلا من حقوق المستبدين وطوائف الأيديولوجيا والأقليات التي غدت مقدمة على أية حقوق. (3) الهوية في ظل » الجبر« خسر الاجتماع الإسلامي، على مستوى الفرد والجماعة، وجوده التاريخي كأمة وهوية، وتم استبدالهما بـ » الدولة القومية« بصيغتها السياسية، وفي حمولتها التاريخية ومرجعياتها الأوروبية القائمة على الظلم والاستعباد والعداء المطلق للدين. واستبدلت الحدود العقدية بالحدود الوطنية، والشريعة بالدستور. ولعله من الطريف ملاحظة أن الدولة القائمة حاليا في العالم الإسلامي لا تمت له بأية صلة تذكر لا من قريب ولا من بعيد، وليس لها أية هوية تذكر إلا من التبعية والخضوع لـ » المركز«. فلا هي دولة إسلامية تُعْرَف، ولا هي دولة عربية تُعْرَف، ولا هي وطنية، وكذا الأمر فيما يتعلق بالهوية الأيديولوجية للنظام السياسي؛ فلا هو ماركسي يُعْرَف، ولا هو اشتراكي، أو رأسمالي، أو لبرالي، أو علماني، أو فاشي، أو نازي. ولأنها، دولة ونظام، خاليان من أية هوية أو مرجعية محددة، إلا من كونهما خليطا » أيديولوجيا« أشبه ما يكون بـ » طبيخ النّوَرْ«، فقد جرى التعبير عنهما إعلاميا واجتماعيا وسياسيا وحتى شرعيا بدولة فلان وعلان، ودولة حفظه الله وسدده .. أو دولة أطع ولو جلد ظهرك وأخذ مالك .. أو دولة البطانة الصالحة التي تعينه إذا عزم وتذكره إذا نسي .. وأخيرا دولة البلطجة والشبيحة!!! إنها باختصار دول » المركز« في أبشع مكوناتها ومرجعياتها وحمولاتها التاريخية وأفعالها وجرائمها ووحشيتها .. وهويتها هويته أصلا وفصلا ومنبتا. أما نظمها السياسية فهي أدوات » الجبر« المؤتمنة عليها. ومع كل هذا تجد من يصفها بـ » دولة القانون« أو من يردد ببلاهة عجيبة ... » وأفتخر«!!!!! وبحسب » أيديولوجيا النّوَرْ« هذه فمن الممكن أن تجتمع المتناقضات في الشخصية المسلمة كما تجتمع في الحركات والجماعات الإسلامية، بحيث نجد إسلاميا يؤمن باللبرالية حتى النخاع ويدافع عنها كما يدافع عن العلمانية حتى الممات، أو ماركسيا يقرأ القرآن ويُصلى عليه في الجامع ويُدفن في مقابر المسلمين، أو وطنيا عنصريا يتخذ من الفكر القومي منهج حياة له، أو اشتراكيا برجوازيا يعيش قمة الرأسمالية، أو عالما شرعيا وهو للدين محرف وللقتل مشرع وللفتنة محرض، أو قاضيا عن الظلم مدافع وللحقوق مضيع، أو فنانا وهو في النفاق مبدع، أو فاجرة في التكريم أما مثالية، أو رويبضة في شأن العامة يتحدث، ... . ولو أسقطنا هذه الثنائيات المتناقضة على مناحي الحياة لوجدناها في الدين والسياسة والثقافة والتعليم والتجارة والاقتصاد والاجتماع والصحة وغيرها. ولعل أسوأ ما خلفته » أيديولوجيا النّوَرْ« هي تلك الثقافة العجيبة اللامبالية التي استوطنت في صميم الفرد والمجتمع. وفي ظلها، تماثلت ثقافة الفرد والمجتمع والدولة. وجردت ثلاثتهم من أية مسؤولية شرعية أو أخلاقية أو حتى موضوعية تجاه الآخرين، حتى صار من المستحيل تَصوُّر أي حضور ذي جدوى لعقيدة الولاء والبراء، بل أن المستقر والشائع والمألوف أن نجد فردا يُقمَع أو مجموعة تُضطَّهد أو شعبا يُذبَح دون أن يحرك أحد، حتى في الجوار، ساكنا. (4) حكم الكفر. إذ بخلاف الأنماط الثلاثة السابقة فإن » الحكم الجبري« هو النمط الوحيد الذي أخرج العالم الإسلامي من سقف التوحيد وزج به تحت سقف الكفر العالمي. وتبعا لذلك ستجد الأمة نفسها تحت نمط » الحكم الجبري« ضحية لـ: قوى الهيمنة العالمية كالصليبية واليهودية والرافضة والبوذية والهندوسية بكل ما أفرزته من قوى حليفة ومادية باطشة، وأيديولوجيات وضعية ونظم سياسية وفلسفية سائدة، وأنماط حضارية وثقافية معيوشة، يمكن أن تتقبل أية ديانة أو مذهب أو فرقة أو جماعة إلا الإسلام شكلا ومضمونا؛ القوى المحلية الحارسة للدولة القومية وهويتها وولاية الأمر فيها كالدول العميقة والموازية وأجهزتها الأمنية وجيوشها ومؤسساتها ومراكزها المالية والاقتصادية والإعلامية والعلمية والمعرفية إلى جانب أقلياتها وعلمائها ومفكريها ودهمائها وشيوخها ومرجعياتهم؛ الجهل المدقع والثقافات الغريبة التي استوطنت في وعي العامة وسلوكها حتى أمست أنماط حياة قادرة، بوعي أو بدون وعي، على الاستهانة واللامبالاة في الأصول الشرعية وما تفرضه من قواعد سلوك إلى حد إجهاضها، والاكتفاء بلغة » ما علينا« .. » وحد الله« .. » صلي عالنبي، صلينا« .. » إن شاء الله« ... » مفهوم مفهوم« .. » مش مختلفين؛ ولكن«! الحلقة القادمة » العقل العقدي« و » العقل الجبري« ﴿ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾
17/4/2014 |
تعليقات القراءاضف تعليقك |