للنساء فقط
8- المباح المحرّم - 1/3
Saturday 24-November-2007
Views : 2244
قبل موعد اللقاء المعهود، طرق الباب في بيت أم هانئ وظهرت أم أنس على الباب وقد تغير وجهها تغيرا ملحوظا حتى أن أم هانئ قالت لها: "أهلا بك أم أنس، والله لولا معرفتي بك لأنكرتك لما يظهر على وجهك من التغير والتبدل! فما الأمر وما الخبر؟ لعله يكون خيرا إن شاء الله تعالى." وران صمت قصير ما لبث أن قطعته صرخة من الصدركأنها اهات ثكلى، ما مر على فقد ولدها أيام بل ساعات، زفرتها أم أنس، وظنت معها أم الفضل أن نفس صديقتها قد خرجت مع تلك الزفرة الثكلى. قالت أم هانئ وقد أخذ منها القلق كل مأخذ "عزيزتي، أربئي على نفسك، فما من أمر ينزل على الإنسان إلا وقد جعل الله فيه حلا ومخرجا"، قالت أم أنس وهي لا تكاد تلفظ نفسا إلا لتتعلق بالذي يليه خوفا من أن تزهق روحها:" إلا هذا الأمر يا أم هانئ إلا هذا الأمر". ثم انخرطت في بكاء شديد. وتركتها أم هانئ لحظات حتى هدأت نفسها، ثم أقبلت عليها قائلة "حدثيني الان، ما الخبر؟"، قالت أم أنس :" حدث ما كنت أخشاه طول عمري، حدث ما تخشاه كل أمرأة أن يقع بها، حدث ما أعتقد أنه سينهي حياتي قبل أوانها، حدث ما..."، قاطعتها أم هانئ قائلة :"على رسلك يا أختاه، وقولي لي ما حدث مرة واحدة، فقد استبد بي القلق وأخذت بي الظنون كلّ مأخذ،" قالت أم أنس:"اتخذ زوجي حليلة أخرى". ران صمت عميق لمدة ثوان، دارت فيه عيني أم أنس في حدقتيها كمن يبتغي مهربا من شر واجهه أو مصيبة توشك أن تقع به. ثم بعد وقت ليس بقليل، قالت أم هانئ :" فهمت عنك أم أنس، ولكني لا أريد أن تُراعي بهذه الدرجة الشديدة فإن الحياة لم تقف بعد ويوم القيامة لم يحن وقته بعد، والساعة لا تزال غيبا من الغيوب، إنما أقصاه أن هذا موقف اجتماعي لم يعتاد عليه الناس منذ عدة مئين من السنين، ولعلنا نتحدث وجه الخير فيه ووجه الأذى منه"، صاحت أم أنس صيحة المفجوع: "أو فيه وجه للخير أم هانئ" قالت أم هانئ :"أو ما علمت يا أم أنس ما من أمر من أمور الدنيا إلا وجعله الله مبنيا على اختلاط الخير والشر، والصلاح والفساد، وأن ما شرعه الله من واجب أو مستحب أو مباح فإنما هو لما غلب فيه الخير على الشر وربت فيه المصلحة على المفسدة" قالت أم أنس وقد هدأ روعها بعض الشيء:"فما وجه المصلحة والخير في هذا الأمر الذي يكاد أن يكون خرابا للبيوت ولوعة وأسى للزوجة الأولى ، جرعات من الحزن تتجرعها المسكينة كل ساعة يقضيها زوجها في بيته الآخر ، بعيدا عن أبنائه وعن بيته الأول الذي شهد نشأتهم ،ثم كيف يأمن عقاب الله حين لا يعدل وبينهما ،وهل في مقدوره العدل ،ثم أليس الله سبحانه قد قال : "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتمُ "، بعد أن قال " وان خفتم ألا تعدلوا فواحدةُ " ، أليس هذا منعاً للتعدد ؟ . قالت أم هانئ وقد فاضت عيناها بالحنان والرقة لما شعرت من أسى صديقتها وحزنها الأصيل :فليهدأ روعك أختاه، ولنتحدث عن الموقف بعقل مفتوح وبقلب عامر بالإيمان ،إذ إنه بغير الإيمان تزل الإقدام وتتوه العقول ويضل الناس الطريق ، فقد أثرت أمورا وقلت أقوالا لا تمت للشريعة بحال ، وان عذرك أنك في هذا الحال من الانزعاج والاضطراب . ولكن دعينا ندرس هذا الموقف من كافة جوانبه ، فالأمر مداره أن رجلا قد أتخذ زوجا ثانية .وان تركنا الشريعة جانباً الآن، فان الرجل يفعل ذلك لأحد أمرين : أولهما أن يكون قد افتقد السعادة والاستقرار والتفاهم في بيته، واتسعت شقة الخلاف بينه وبين زوجته – سواء لسوء فيه أو لسوء فيها ، فان هذا خارج عن موضوعنا ، المهم أن هذه هي النتيجة التي وصل إليها من قرر هذا الأمر، أقول اتسعت شقة الخلاف بينه وبين زوجته لدرجة صارت حياته معها لا تستمد وجودها إلا من إحساس بالمسؤولية تجاه المرأة وتجاه أبنائه الذين كتب عليه أن يرعاهم حتى يشـــــّبوا عن الطوق . وقد قال عمر بن الخطاب لمن جاءه يقول :أريد أن أفارق زوجتي ، فاني لا أحبها ، قال عمر : أو كـلّ البيوت بنيت على الحب ،فأين الرعاية والتذمم، ويا له من قول بليغ رائع يمثل قمة الرجولة بمعناها في تحمل المسؤولية والصبر على المكروه .والأمر الثاني ، أن الرجل مع رضاه عن زوجته وكونها امرأة بكل معاني الكلمة ، نشيطة ذكية تعرف حقه وتقوم به ، فتسكت إن غضب ،وتضحك أن ضحك ، وتعينه على بلوى الدنيا، أقول، رغم هذا فقد عنّ له أن يتخذ زوجه أخرى لإرضاء حاجة في نفسه ليس إلا، هذه الحاجة قد تكون إنجاب ذرية حيث عطلت الزوجة عن الإنجاب ، أو لمرض داهمها أعجزها عن القيام بحقه، أو مجرد حاجة في نفسه لا دخل لزوجته الأولى بها. ولا تكاد تعدو الأسباب في اتخاذ زوجة أخرى ما ذكرنا. " قالت أم أنس ": "أو يصح لرجل ان يتزوج لمجرد رغبته في ذلك؟" قالت أم هانئ : "دعينا نبدأ الموضوع من أوله. فقد قال تعالى في سورة النساء "فان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع،فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا" النساء٣ . وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية إباحة لتعدد الزوجات إلى الأربعة . والحق أن ذلك لم يكن رفعاً لحد المسموح به إلى الأربع،بل كان تحديداً للمباح بأربع لا أكثر حيث أن العرب كانوا يتزوجون أكثر من ذلك، ما شاء لهم هواهم، فحددها الله سبحانه بأربع حتى يتحقق الغرض من الزواج بهذا القدر لا بأكثر منه. ولننظر في سبب نزول الآية الكريمة من سورة النساء ،روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن سبب نزول الآية قالت : " يابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير قسط في صداقها ،فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغن بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن"رواه البخاري ، وأذكر لك هنا بعض ما يجب أن نتعلمه من القواعد الشرعية التي تحكم النظر في النصوص الشرعية حتى نفهمها على الوجه الصحيح. أولا أختاه، فان معرفة سبب نزول الآية من القرآن في غاية الأهمية لإدراك معناها وما فيها من أحكام ،ومعرفة عامّها وخاصّها. وهذه الآيات الكريمة عامة في التنبيه على معاملة المسلمين فيمن هن في رعايتهم من اليتامى بطريق المنطوق، ثم بينت بطريق المفهوم أن المسلم له أن يتزوج اثنتين وثلاث ورباع من النساء غير من في حجره من اليتامى. ولا يعني هذا،كما قال بعض مؤولة النصوص المغرضين أن هذه الآية خاصة في ظروف من في حجره يتامى فقط، إذ إن التعدد ليس له معنى في هذه الحالة فقط، وإنما هي لإنشاء حكم عام يندرج تحته من في حجره يتامى بطريق العموم. أمّا ما ذكره البعض الآخر من المغرضين أو مم قّل فهمه واضمحل علمه، أن الجمع بين آية النساء ٣ "وأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" وآية النساء ١٢٩ " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، فيقرؤوهما متتابعتين ثم يخرجوا من هذا الخلط بأن الله منع التعدد بنص الآية إذ إنه سبحانه قرر أن الرجال لن يعدلوا بين النساء! وهذا الأمر من أسخف التحريف لكتاب الله سبحانه ، فانه، مع أن الآيتين ليستا متتابعين، فان الله سبحانه لا يحتاج إلى أن يمنح ثم يمنع في آيتين من آياته، يمنح بنصّ واضح صريح ،ثم يمنع بنصّ مغطى مشوش، والأولى أن يقول بطريق واضح أن الزواج بأكثر من واحدة أصبح ممنوعا بعد أن كان مباحاً، كما فعل في تحريم الخمر ،حيث تدرج في بيان خبائثها مع استمرارية إباحتها، ثم منعها بالكلية في قوله تعالى " قل أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، فالتحريم هنا واضح صريح، أتى بعد إعداد متدرج من بيان أنها تشتمل على نفع قليل وضرر كثير ،وأن ضررها يربو على نفعها، ثم ضرر الفعل نفسه (شرب الخمر )، ثم تحريمها مطلقاً، ولكن الحالة هنا معكوسة، إذ انه ليس هناك تدرج في بيان ضرر التعدد ابتدءاً،بل العكس، فقد أباح الله سبحانه التعدد بآيات صريحة في مقام المنّ على عباده، فلِما يعرج على ما أباح فيحرّمه بهذه الطريقة التي هي مدارة وتلميح لا تشريع واضح صريح!هذا لا يكون .
وقوله الله تعالى "فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة" أنما هو من قبيل التحذير الخاص الذي يخاطب في الرجل ضميره ودينه،لا أنه يخاطب السلطة الحاكمة فتمنع أو تسمح،والخوف المقصود في قوله تعالى "فان خفتم"يعني أن على الرجل أن يمتحن نفسه فان آنس قدرة على العدل فلا حرج عليه في أن يتخذ زوجاً واثنتين وثلاثة ورباع، وان رأى من نفسه عجز عن العدل، فعليه وحده أن يعدل عن التعدد ،فان حسابه في هذا الظلم سيكون على الله وحده، وليس هناك عقوبة دنيوية أو حدّاً على الظلم إن وقع في هذه الحالة فالمعوّل على الرجل نفسه ،هو وحده الذي يحدد إمكانية العدل أو عدمه،ويتخذ قراره على أساس من تقوى الله ومراعاة دينه .
وآية "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" قد تحدث عنها الناس كثيرا وتناولوها بالتفسير المغلوط ،أن الله سبحانه هنا قد بيّن استحالة العدل بين النساء ،وبما إنه سبحانه قد اشترط العدل للتعدد في الآية السابقة ،فهذا يعني تحريم التعدد! ويالها من دورة الله سبحانه غنيّ عنها كما أشرت من قبل، فالله سبحانه لم يشترط العدل للتعدد كما بينت لك من قبل، بل ربطه بقرار الرجل الحر بناء على خوفه من إقامة العدل أو عدمه، والآية المذكورة هي آية خبرية لا إنشائية، أي لأنها تخبر عن أمر كائن لا أنها تنشأ حكمــــاً شرعي، والفرق بينهما كبير ، وهذا الخلط هو في حقيقة الأمر سبب كل هذا الهراء عن تحريم التعدد، وما تبعه من شعور النساء في عصرنا هذا بوقوع الظلم ومجانبة الشريعة في أمره.
نظرت أم أنس في ساعتها، وتنهدت قائلة "أخشى يا أختاه أنني يجب ان أغادر الآن، لأعود إلى المنزل قبل حلول الظلام، ولكن لعلنا أن نستكمل الحديث عن هذا الموضوع في لقاءنا القادم مع بقية الأخوات لتتم به الفائدة إن شاء الله ". وغادرت أم أنس منزل صديقتها على أمل العودة في القريب العاجل . |
Readers CommentsAdd Comment |